شعار قسم مدونات

ذاكرة لا تَنسى، وزمانٌ لا يَمُرْ

Blogs - man

سيظل شعورا عالقا لا يمر! كأنما تجمدت، أو كأن الزمان حينها توقف، ولما قرر الانطلاق مجددا أخذني كيانا ومشى، وأفلت روحي، تركها بائسة يائسة، واقفة وحدها ما تحركت! منذ تلك اللحظة لا تزال الغصة في حلقي، أتجرع الألم في كل شهقة وزفرة، مرار يُعيق حديثي وسُكاتي، وضجيج يُميت البهجة حولي، فلا يخرج من داخلي شيء ولا يدخل إليّ إلا مصبوغا بمرارتها!

لا زلت حتى الآن عاجزا عن فهم تلك العبارة التي أوسعتني وجعا وقتما وقعت عليها عيني.. لا أظن أني فهمتها وما يكون لي ذلك أصلا.. إرادة الله حكمت! ما أعرفه جيدا أن الله بقلوب المحبين رحيم، فكيف أُصدق أن إرادته شاءت لي وجعا وفِراق! والله يأبى عليّ عقلي تصديق ذلك! على كلٍ.. لست في معرض سرد، فما انتهى صار حكاية يمكن سردها، وهي وإن رحلت ما انتهت عندي، وما صارت ذكرى حتى تُقَص! الذي لا تُغفله نفسك لا ينساه عقلك، وكثير هو ما لا أنساه!

يتعجب مني بعض الذين أعرفهم، كيف أَنسِبُ الحدث لتاريخه بدقة، ثم لا تتداخل الأيام عندي فيتوه مني بعضها! غير أنها ليست معجزة، حياتك إن كانت ذات قيمة تعنيك ستحفظ أيامها ولياليها، مهما كان صعبا عليك تِذكار أمرٍ ما تمنيت يومها أن يمر ويمضي فتنساه، الواقع أننا نتغافل عمدا فنطمر شيئا من حياتنا في مدافن الذاكرة السحيقة، لكننا لا ننساه!

منذ دبت فيّ الحياة.. أصارع الرغبة في ألا أفارق، لكنك لا تكون بشرا إن لم تشملك سنن الله في البشر! فارقت كثيرا ولم يخرق جدار روحي وجعُ فراقٍ أكثر من فراق جدتي لأبي!

هبْ أنك أحببت بصدق، وفرقت بينكما الأيام، لا أقول الأقدار لأن الله لا يعلق قلبين تعلق المحبين ليشقيهما أبرا، إنما الشقاء صنيعة الإنسان، ثم لما مر من الأيام ما مر، شاء القدر بينكما لقاء فالتقيتما، كأن ميتا في مقبرة يصحو.. كأنه يوم البعث! والله لينتفض في نفسك ما تراكم في ذاكرتك السحيقة، ولتجدن شيئا كتيارٍ متردد يجري في عروقك يهزك هزا لتعود على حالك الأولى التي كنت، أنت ما نسيت وما جفى قلبك، لكنك تغافلت وأجبرت نفسك، والآن تدمع كطفل خنقته عبراته وما عاد يطيق حبسها!

لازلت أذكر أياما كاملة بتفصيلها، من صِباي وعلى مدى بضعٍ وعشرين سنة هنّ سنوات وعيي تقريبا! أذكر يوم كنت في صفي الابتدائي الأول حينما يبدأ أستاذنا في الحديث، أبدأ مع نفسي حديثا خاصا آخر، أتحدث إلى أمي وكأنها تسمعني، وهي ليست كذلك، أخبرها أنني لا أطيق بِعادها حتى ساعات الدراسة المحدودة، أشكو لها خوفا يملأني من فقدها يوما! أرفع عيناي إلى سقف المكان وأُشرك الله في حديثي، أقول له.. يا رب.. إن كان لكل واحد منا عمرا كما يقول أبي فاقصص من عمري لأبي وأمي أعواما وليكن أول الصاعدين إليك من بيتنا أنا.. فوعزتك لا أطيق أبدا أن يكون أولنا غيري.. أخاف الفراق ووجعه فلا تجعلني ألقاه، وطيب خواطرهم حين تأخذني إليك!

منذ دبت فيّ الحياة.. أصارع الرغبة في ألا أفارق، لكنك لا تكون بشرا إن لم تشملك سنن الله في البشر! فارقت كثيرا ولم يخرق جدار روحي وجعُ فراقٍ أكثر من فراق جدتي لأبي! وما حاربت فراقا ولا تنصلت منه أكثر ما أتنصل من فراق زهرةٍ نبتت في قلبي، ما أطيق بِعادها ولا أؤمن أبدا أنه سيدوم! أنا لست مغرما بتأريخ أوجاعي حتى أُبقيها في ذاكرتي، ولا أنا من المتلذذين بتعذيب الذات، لكنك حين تمسي وحيدا بعد أن كانت شمسهم لا تغيب عنك حينا.. ستتألم!

لما كانت جدتي رحمها الله تأتينا حاجّة ثم ينقضي الحج ويحين أوان سفرها.. أتألم، لما كان رمضان ينقضي.. أتألم،

لما كنا نفارق مكة عائدين إلى المدينة.. أتألم! لما كانت امتحانات العام تنتهي معلنة غيابا عن رفاقي.. أتألم! لما مات صديقي الذي جاورني في مقعد الدراسة سنوات.. تألمت، ولما تركت المدينة وخلفت فيها أبي وأمي وبعض إخوتي مات في نفسي من قسوة الألم شيء.. وبقي الفراق والوجع!

خذ نفسا عميقا مرة وجرّب أن تتذكر شيئا أماته الزمن في نفسك وأقمت له مأتما، تذكر مثلا حبيبا قطعك بعد وصال، ستجد أنك ما نسيت وما هذه بذكرى.

لما أحببتها بصدقٍ وتمنيتها زوجةً وملأت منها كل كُلي، ثم أخذوها قهرا مني توجعت! لكني لن أترك للتاريخَ مساحة أن يسجل هذا الأمر تحديدا في أوراقِ ذكرى يُبليها الزمن، أنا لن أترك لعابثين تُخيل إليهم بعض الخيالات الساذجة مجالا لتحديد مصيري في أمرٍ كهذا!

ربما نستسلم للفراق أحيانا، لكن قوة جامحة في داخلنا تجعلنا فجأة نحارب الجميع مهما كانت قواهم وأسلحتهم، نقاتلهم على ضعفنا، لكننا لا نملك رفاهية الاستسلام هذه المرة، رغما عن طاقاتنا الهزلية نقاتل، ورغما عن سيطرتهم ننتصر! ننتصر لو أن قلوبنا بيقين اعتقاد القدرة الخالصة أسلمت لله.

التاريخ لا ينساك وإن نسيته، هو لا يذكرك لعظيم أمر فعلته ولا يذمك لسوء صنيعٍ وقعت فيه، إنما هو يحصي لك ما لك وما عليك، حتى تقرأه سجلا طويلا متى ما شئت لتسترجع أو لتأخذ منه درسا أو لتكمل فيه شيئا ما انتهيت منه، أو لتبكيه حسرة إن كنت لم تعِ كل ذلك!

خذ نفسا عميقا مرة وجرّب أن تتذكر شيئا أماته الزمن في نفسك وأقمت له مأتما، تذكر مثلا حبيبا قطعك بعد وصال، ستجد أنك ما نسيت وما هذه بذكرى، ما ذلك إلا توقف للحياة مضى بعده زمن، وشيء من روحك لا يزال عالقا هناك حيث كنت يوما، تذكر أمورا أخرى وأخرى، ثم اسأل نفسك.. ماذا تبقى لك من روحك إن كانت مقطعة أوصالها بين سنوات عمرك الفائتة!  الحق أننا سنبقى عالقين على قارعة بعض أيام حياتنا وحوادثها مهما انقضى من عمرنا عمرا ومهما تغيرت بنا الأحوال! أُحبوا من التاريخ بعضه لأنه أنتم، ولا تجلبوا من الذكرى ما كنتم فيه على غير ما تمنيتم!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.