شعار قسم مدونات

الفوضى الخلاقة

blogs - man alone
أقبلت السنة الجديدة، وكالمعتاد ننظر إلى اليمين، فنجد رجلًا يضع خطة لتعلم اللغة الفرنسية، وننظر يسارًا فنجد امرأة تخطط لسنة تخسر فيها بعضًا من الأرطال، وننظر خلفنا فنجد مراهقًا يمسح رقم ستة ويبدله برقم سبعة لكي لا يبذل عناء كتابة خطة السنة الجديدة، ولم نذهب بعيدًا، فلننظر أمامنا ونرى أنفسنا هي الأخرى متفائلة وهي تملأ دفترها بأهداف السنة الجديدة.

 

رغم تكرر هذا المنظر أمامي كل سنة، ما زلت أتعجب منه! أتعجب ارتفاع الآمال بعدما أن كانت في أدنى درجاتها، فبينما ننشر على شبكات التواصل منشورات تعبر عن تعاسة العام الماضي، نتبعها بعدها بسويعات برسائل تهنئة وتبشير بالعام القادم! قد تقول لي إن هذا مجرد كوميديا بشرية نمارسها، نحب أن نسخر من أي شيء، حتى سنواتنا الحزينة، ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن كل كوميديا تخفي وراءها جانبًا من الصحة.
 

نحن نمل سريعا! وهذه الطبيعة تتجسد في كثير من قراراتنا، فتجدنا نغير الكثير من الأمور في حياتنا؛ تفاديًا لسطوة الملل. نغير سيارتنا، وهاتفنا، وطعامنا

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا هذه الآمال تذهب هباءً؟ لماذا كل هذه الخطط لا ترى نور الشمس؟ الجواب الذي سيسارع قراء التنمية البشرية إليه هو: أننا نفتقر إلى الانضباط، وهذا أمر لا أنفي صحته، بل أغلبنا -إن لم يكن كلنا- يعاني هذه المشكلة. لكنني سأتحدث عن أمر آخر، أو بالأحرى سأنظر للموضوع من نظرة أخرى، أي إنني لن أعالج مسألة لماذا لا نحقق أهدافنا، بل سأحاول أن أرى إن كان تخطيط حياتنا أمرا مجديا من الأساس.
 

قبل أن أبدأ حديثي علينا أن نتطرق إلى أمر مهم حول الطبيعة البشرية: نحن نمل سريعا! وهذه الطبيعة تتجسد في كثير من قراراتنا، فتجدنا نغير الكثير من الأمور في حياتنا؛ تفاديًا لسطوة الملل. نغير سيارتنا، وهاتفنا، وطعامنا، رغم عدم تغير الجانب الوظيفي لهذه الأشياء، إلا أننا نغيرها فقط لأننا مللنا! ورغم اشتراكنا بهذه الطبيعة إلا أننا نتفاوت كأفراد في مدى مللنا.
 

على الجانب الشخصي، أظنني من الأفراد الذين ترتفع عندهم طبيعة الملل، فعلى سبيل المثال، لا أستطيع أن أحافظ على أي روتين في حياتي، من ساعات النوم إلى ما أشربه صباحًا (أو مساءً إن استيقظت حينها) كله يتغير. أذكر حدثًا رسم بسمة على وجهي: ففي محل القهوة القريب مني، والذي أزوره كل يوم مرة على الأقل، قال لي صاحب القهوة مرة: "إن ما تفعله جميل". كان يتحدث عن كيف أنني كل يوم أطلب شيئًا مختلفًا، وفي أوقات مختلفة، حتى معدل السكر أغيره، فلذا مع أنني -ربما- من أكثر رواد هذه القهوة، إلا أنني الزائر الوحيد الذي لا يستطيع أن يجهز طلبه مسبقًا.
 

بعيدًا عن تطرف طبيعة الملل في، هذه الطبيعة مهمة جدًا في نجاتنا كجنس بشري، فتخيل لو أن أسلافنا لم يشعروا بالفراغ والملل، ولم يكتشفوا القارات الجديدة أو حتى العالم من حولهم، حينها لما وجدت الكثير من الاكتشافات التي تنعم بها البشرية الآن. حتى النار! لا بد أن أحد الفضوليين كان يشعر بالملل فحك صخرتين مميزتين في أحد الكهوف التي لم يزرها مسبقًا وأشعل نارًا! … "الملل عقوبة الطبيعة لمن لا يعمل" -د. مصطفى محمود.

ابدأ حرًا من أي طريق أو خطة، ومن ثم انطلق في الدنيا بروح مستكشف، وأثناء تنزهك في بساتين الحياة اقطف أحلامًا وضعها في سلتك، ولا تقفل سلتك أبدًا.

طبيعة أخرى لا نختلف فيها، ألا وهي الحرية، نحن لا نحب أن نجبر على أي شيء، حتى وإن كان من أجبرنا أنفسنا ذاتها، وكتابة خطة في بداية السنة، ومن ثم إلزام النفس بالسير عليها هو نوع من الإجبار لا شك. فهي تقيد حريتنا، كثير من الفرص في الحياة سنقول لها لا إن كانت عندنا خطة مسبقة، ليس ذلك فقط، بل الحياة ذاتها لن تتوقف عن مفاجأتنا، فسيهاجمنا التعب والحزن حينًا، فلا نتزحزح نحو خطتنا شبرًا واحدًا، وتوافينا السعادة حينًا، فنعدو مسارعين لا يوقفنا شيء!

لكي لا يقع لبس في كلامي، أنا لست أعارض الأهداف، أو الأحلام، بالعكس هي الأخرى طبيعة بشرية: أن تكون لنا بوصلة نسير في اتجاهها، ولكن إن أردنا أن نساير هذه الطبيعة فعلينا أيضًا أن نساير طبائعنا الأخرى: الملل والحرية، إنه في رأيي الشخصي بهتان للنفس أن نأسرها بين جدران "الخطة"، أي أن نرسم للنفس البشرية طريقًا واضح المعالم دون أن ندعها أولًا تسير في أرض الله حرة طليقة، تتعلم من كل تجربة.

ما أحاول أن أصل إليه هو بكل بساطة التالي: ابدأ حرًا من أي طريق أو خطة، ومن ثم انطلق في الدنيا بروح مستكشف، وأثناء تنزهك في بساتين الحياة اقطف أحلامًا وضعها في سلتك، ولا تقفل سلتك أبدًا، بل أضف لها كلما رأيت حلمًا يعجبك، ولا تخف أن تتخلى عن بعض هذه الأحلام، فكلنا ننمو وتتغير أذواقنا. سيقول لك كثير من المتنزهين في هذا البستان: إن ما تفعله فوضى وعبث، تجاهلهم، فالحياة قصيرة جدًا لأن نرسم خططًا تقينا من الفوضى، إن خير ما نستطيع فعله هو أن نجعل هذه الفوضى خلاقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.