شعار قسم مدونات

أبعد من مسألة العقوبات الاقتصادية على السودان

Young Sudanese children hold a banner reading in Arabic 'Lift the injustice' during a protest against longstanding US sanctions on Sudan, outside the US embassy, Khartoum, Sudan, 03 November 2015. The US imposed economic and trade sanctions on the country 1997, in response to allegations of harbouring terror groups and human rights abuses against the regime of Omar al-Bashir.

في يوم الجمعة الماضي 13/1/2017م أصدر الرئيس أوباما وقبل مغادرة البيت الأبيض بأسبوع أمرا تنفيذيا بتخفيف برفع العقوبات الاقتصادية والتجارية المفروضة على السودان، تلك العقوبات التي فرضت قبل حوالي 30 عاما، وتركت آثارا سيئة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية وعلى العلاقات الخارجية للسودان.
 

بدأت سلسلة العقوبات الأمريكية على السودان قبل وصول الرئيس البشير إلى الحكم، ثم توالت واشتدت بعد ذلك لتصل إلى قسوتها عام 1997م. حيث بدأت العقوبات عام 1988م حين عجز السودان عن سداد الفوائد الربوية لديون الولايات المتحدة لأكثر من عام، وتطبيقاً للقوانين الأمريكية حرم من المعونات الأمريكية الخارجية باستثناء المعونات الإنسانية.
 

ورغم تعهد الحكومة الأمريكية برفع العقوبات بعد توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام مع متمردي الجنوب عام 2005م، إلا أنها لم تف بوعدها، وتذرعت بأزمة دارفور، وأصدرت قرارات أقسى عام 2006م.

ثم اتسعت أكثر عام 1990م لتشمل حرمان السودان من حقه في إعادة هيكلة ديونه الخارجية، ومن المساعدات الخارجية. ثم أضيف السودان في العام 1993م إلى القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب وخضع بذلك لقائمة طويلة من القرارات الاقتصادية التي تضمنت الحرمان من المساعدات الخارجية مثل برامج المعونات الزراعية، برامج دعم قوات حفظ السلام، دعم بنك التصدير والاستيراد الأمريكي، الدعم في الصناديق والمؤسسات المالية الدولية، معارضة منح السودان قروض من صندوق النقد الدولي وحرمان السودان من ميزات المعاملات التفضيلية.
 

ثم صدر القرار الأقسى من تلك السلسلة في نوفمبر 1997م حين أصدر بيل كلينتون الأمر التنفيذي 13067 وبموجبه فرض الحظر التجاري على كامل أراضي السودان وتجميد الأصول المالية لحكومة السودان، واستمر القرار في عهد بوش الابن؛ بل صدر أمر تنفيذي آخر برقم 13400 في أبريل 2006م بتوسيع الحظر ليشمل الأشخاص، واستمر تطبيقه في عهد أوباما وصار يجدد سنويا.
 

ولم تكتف الولايات المتحدة بالعقوبات، بل كانت تعيق أي تقدم أو تنمية، حيث دمرت مصنع الشفاء أكبر مصنع للأدوية في السودان عام 1998م بدعوى إنتاج المصنع لغاز أعصاب وعلاقات مزعومة لأصحابه بالقاعدة، واتضح لاحقا كذب هذه الادعاءات، ولم تعتذر وإن قدمت تعويضا محدودا بشكل خجول لأصحاب المصنع، وأدى تدمير مصنع الشفاء إلى انهيار الصناعة الدوائية وتضرر من ذلك عشرات الآلاف من المرضى.
 

ورغم تعهد الحكومة الأمريكية برفع العقوبات بعد توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام مع متمردي الجنوب عام 2005م، إلا أنها لم تف بوعدها، وتذرعت بأزمة دارفور، وأصدرت قرارات أقسى عام 2006م طالت معاقبة الأفراد واتهام الرئيس البشير ومسؤولين كبار في الدولة بجرائم حرب ومطالبتهم بالمثول أمام محكمة الجنايات الدولية، مما عقد الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد. ورغم التقارير الدورية التي كانت ترفعها الأجهزة الأمريكية حول آثار الحظر وجدواه والتي أكدت بأن المتضرر الأكبر هو الشعب السوداني، وأن هذه العقوبات لم تؤثر على النظام إلا أن الحكومة الأمريكية كانت مستمرة فيها وتشديدها.
 

تداعيات العقوبات:
هذه العقوبات كانت تعني أن أي شركة أو فرد لا يستطيع أن يصدر أو يستورد أي شيء من وإلى السودان وهو البلد المصنف كثالث أكبر دولة من حيث مساحة الأراضي الصالحة الزراعية، والدولة الأولى في إنتاج الصمغ العربي الذي يستخدم في صناعات غذائية ودوائية عديدة، حيث ينتج منه 85 في المائة، وهو حاليا ثالث أكبر دولة أفريقية في إنتاج الذهب، إذ تزايد إنتاجه في السنوات الأخيرة ليصل إلى 80 طنا عام 2015م، ويتوقع أن يتصدر أفريقيا في إنتاج الذهب بحلول 2018م، فضلا عن ثروات السودان الضخمة في مجال النفط والغاز، والمعادن الأخرى.
 

اقتصاد بهذه الضخامة والتنوع محروم من الاستيراد والتصدير، وهو خارج النظام المصرفي العالمي، فالشركات ممنوعة من التعامل معه، ومن خالف يتعرض لغرامات قاسية، بل حتى على مستوى المغترب السوداني البسيط لا يستطيع أن يحول مائة دولار إلى أسرته في السودان.
 

نتيجة للعقوبات، اضطر السودان إلى استخدام سلة من العملات الموازية للدولار وأسهم هذا في زيادة الخسائر، مما أضاف قيودا إضافية عند تسوية المعاملات التجارية لدى المصدرين.

ورغم انتشار أجهزة الصراف الآلي وأجهزة نقاط البيع في السودان والمربوطة بشبكة البنوك إلا أن الاستفادة منها محصورة فقط على المتعاملين مع البنوك المحلية، فلا يستطيع الزائر من خارج السودان استخدام بطاقات الصرف الآلي، أو بطاقات الائتمان، كما لا يستطيع اقتناء أجهزة آي فون ومنتجات آبل باعتبارها شركات أمريكية، وهو محروم كذلك حتى من شراء أو تنزيل تطبيقات نظام آندرويد على أجهزة سامسونج، بل عليه أن يضبط جهازه ويكمل إعداداته خارج السودان، وباختصار لا يستطيع أي شخص الشراء عبر الإنترنت أو الاستفادة من التقنية إلا في نطاق محدود بسبب الحصار.
 

وهذه أمثلة فقط لحرمان المستهلك العادي من هذه الخدمات التي تعتبر ترفيهية مقارنة بالتأثير الأكبر الذي طال القطاعات الاستراتيجية. فقد أثر الحصار على ملامح الحياة في السودان؛ إذ تضررت البنية التحتية من قطاع النقل والخدمات المصرفية والمصانع، ولحق الضرر كذلك مراكز البحوث والجامعات. وكان المتضرر الأكبر قطاع النقل، فانهارت الخطوط الجوية السودانية التي كانت تعبر القارات من قبل، إذ حرمت بسبب الحصار عن قطاع الغيار، والصيانة الدورية فتحول أسطولها إلى خردوات.
 

وخرج قطاع السكك الحديدية تقريبا عن الخدمة بعد أكثر من قرن بعد أن كان يقطع قرابة مليون ميل، ويربط الجهات الأربعة للسودان القارة ببعضها، وطال الحرمان من حق التقنية واستخداماتها الصناعة والزراعة والتعليم، فتأثر أكثر من ألف مصنع بشكل مباشر بالحصار لعدم حصولها على قطع الغيار أو البرمجيات الأميركية، وتوقف أغلبها عن الإنتاج، فضلا عن تخلف البحوث العلمية في الجامعات السودانية.
 

الخسائر الاقتصادية بسبب العقوبات:
لا توجد إحصاءات دقيقة عن إجمالي الخسائر التي تعرض لها السودان جراء العقوبات، لكن تقدرها بعض المصادر ب 800 مليار دولار، كما تقدر قيمة العمليات الاستثمارية التي تم تعطيلها بتطبيق نظام العقوبات ترليون دولار، فاضطر السودان إلى استخدام سلة من العملات الموازية للدولار وأسهم هذا في زيادة الخسائر؛ إذ أن 60 في المائة من التبادل التجاري في العالم يتم بالدولار، مما أضاف قيودا إضافية عند تسوية المعاملات التجارية لدى المصدرين.
 

وجود مجموعات متنفذة استفادت من مناخ الحصار "في السودان" وتسببت في الثراء الفاحش، أسست هذه المجموعات شركات وهمية للاستيراد والتصدير، ومن ذلك شركات الأدوية الوهمية.

وقد تحايلت شركات ومصارف غربية على العقوبات، وتعاملت مع السودان، لكنها تلقت غرامات بموجب القوانين الأمريكية وصلت إلى مليار ونصف دولار. على أن المتضرر الآخر من القرار كان الشركات الأمريكية والأوربية ذاتها، التي حرمت من الاستثمار في السودان، فانفردت الصين وروسيا وبعض البلدان، ولعل قرار رفع العقوبات راعى هذه المصالح، أي إتاحة الفرصة للشركات الغربية للمنافسة في مجال النفط والمعادن والزراعة والخدمات، وتحجيم دور الصين المتنامي.
 

الحصار والفساد أيهما أكثر ضررا؟
لكن هل تدهور الوضع الاقتصادي في السودان سببه الحصار فقط؟ الإجابة بالتأكيد بالنفي، بل هناك عوامل أسهمت في التدهور الاقتصادي، منها السياسات الاقتصادية الخاطئة، وقوانين الاستثمار الطاردة للمستثمرين السودانيين والأجانب على حد سواء، فضلا عن ضعف الجهاز التنفيذي والرقابي الذي يحول دون تطبيق القوانين الكفيلة بمعالجة التخلف الاقتصادي.
 

كما أن الرأي العام السائد في السودان يرى أن الضرر الأكبر على الاقتصاد السوداني يأتي من عاملين منافسة الحكومة بشركاتها ذات الامتيازات الضخمة القطاع الخاص، وهي شركات بعيدة عن الجهاز الرقابي، والعامل الثاني وجود مجموعات متنفذة استفادت من مناخ الحصار وتسببت في الثراء الفاحش، أسست هذه المجموعات شركات وهمية للاستيراد والتصدير، ومن ذلك شركات الأدوية الوهمية التي تحقق فيها الأجهزة الرقابية حاليا، ويبدو أن هؤلاء يجدون حماية كافية فلا تطالهم يد القانون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.