ولو كان في الآذان قِرَبٌ، لفاضت من النصائح التي تُصب فيها حول فضيلة التركيز واقترانه بالنجاح، إن كان ذلك صحيحًا، فهل في التركيز من أضرار ؟ هذه خمسة أضرار، شابَ ملاحظتها شيءٌ من التشويش، قد يكون صفاؤك حكمًا عليها بعد قراءتها:
أولًا: إيهامٌ بفهم الذات
بسبب تركيزه الشديد على مجال محدد ، يتوهم أنه سبر أغوار نفسه، وأنه وجد مجاله الذي لاحيدة عنه، ولكن التفاتة عن محط تركيزه ، تجعله يتراجع عن ذلك، وتجعل ذهنه مهيئًا بأن تتخلّق فيه أفكارًا ومشاعرًا جديدة ، حُبسَ عنها حينًا من الدهر.
| خير جليس في الزمان كتاب، وكثرة المجالسة تقود إلى المجانسة، والمنهمك في علمٍ ما، إلا ويتسلل إلى طبعه شيء من قوانين هذا العلم. |
ثانيًا التقليل من قيمة الأشياء الأخرى
كيف يقدر قيمتها وعينه لم تَر غير شيء واحد ؟! وإن رأت فإلماحة بسيطة، حثته عليها غريزة الفضول، فأسكتها بنظرة متعجلة، عادت إليه بتصور قاصر، صدر عنه حكم قاصر، يعبر عنه أحيانًا بقوله:
هذا علم لا ينفع.
ثالثًا: فوات قدرٍ من جمال الذي بين عينيه
لو كان لديه قدر من التشتت والتفلت، لأدرك أن الذي بين عينيه أجمل مايكون عندما يتناسق مع ما حوله، وكم من المعارف لا يُعرف قدرها إلا إذا جاوَرَتها معارف أخرى.
فالزهرة تزداد حسنًا لو لاحظتَ فراشةً ترفرف حولها، وشجرةًمُدهامّة بجوارها، من فوقهما سحابة تحجب شمسًا وتكشف عن قمر.
رابعًا: تسلل طبائع الشيء الذي بين عينيه
خير جليس في الزمان كتاب، وكثرة المجالسة تقود إلى المجانسة، والمنهمك في علمٍ ما، إلا ويتسلل إلى طبعه شيء من قوانين هذا العلم، فطَبع علم الرياضيات -مثلًا- لا يقبل منطقة رمادية، إما صوابًا أو خطأ. ولَك أن تتخيل مالذي سيحدث لو تسلل هذا الطبع إلى حياتك الاجتماعية ؟! وما الذي سيحدث لو استدعينا الطبع الرياضي في العلوم الإنسانية؟!
خامسًا: تضخّم القيمة ظاهريًا
التركيز حول شيء محدد يكثف شعورك تجاهه، وقد يوهمك بقيمته العالية، فتظل دهرًا تحرزه وتحرسه، حتى إذا أخرجته يومًا وجدت سوقًا كاسدة لا يباع فيها ما احترزت، إلا بثمنٍ بخس دراهم معدودة.
في نهاية المطاف، تلك خمسة ناقصة، لا أحب أن يُفهم منها ذم التركيز مطلقًا، وأحب أن يُفهم منها أن التركيز أداة، يتطلب استعمالها وعيًا بأضرارها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.