شعار قسم مدونات

مرثيّةٌ لأشياء ماتت في الضمير!

blogs - أطفال حلب

يقولون قد تموت في الحياة مرتين مرة عند موت أمك ومرة عند أخذ ملك الموت لروحك! وأنا أقول: قد تموت في الحياة مئة مرة! لم أبالغ عندما قلت هذا فلصحوة الضمير ثمن وأظن أن هذه بتلك!

 

فمرّة عند رؤيتك لأم تنوحُ على ابنها الذي أصبح أشلاءً في كل قطر يقطنُ جزءاً مترديًا من بقايا جسده ومرة عند رؤيتك لفتاة تحدّب ظهرها وهي تولول على أخيها التوأم الذي مات أمام عينيها دفاعاً عن عذريتها! ومرة عند انقطاع الأمل والرجاء في عيني طاعنٍ في السن بعدما تقطعت به السبل! وهلّم جرا.. الكمّ الهائل من الأوجاع المحيطة بنا من كل جانب والذي يتراكم في أذهاننا شيئاً فشيئاً جعلنا دونما شعور نخفي إحساساً غامضاً في مخيلتنا يظهر على شكل نوبةٍ من الاكتئاب بين الفينة والأخرى!

 

ماذا عساي أن أقول؟ أأقول عن الدمى الدامية الهائمة في بحر من الحطام أم عن تلك التي تشبّث بها الأطفال خوفاً وذعراً مما يقوم به الكبار ومما يصنعون! أم أقول عن تلك الحقائب المدرسية بالدماء قد تلطخت تحت المدارس التي تهدمت! ماذا عساي أن أقول؟ أأقول عن قدمي طفل لفّهما بأكياس بلاستيكية خشية أن تنجرح من الشظايا المتناثرة هنا وهناك منتظراً دوره في جلب الماء بدلاء أكبر منه بكثير! آلمني جداً منظر تلك اليدين الصغيرتين المجروحتين لطفل وهما تحملان كيساً ممزقاً يحمل به كتبه المدرسية والتي أكاد أجزم من منظر أطرافها أنها ممزقة دون شك!

 

فقد أولئك الأطفال الركن الأساسي الذي ترتكز وتستقر به البلدان ولا تتجلى الحياة الا بوجوده ألا وهو الأمان! سمفونية نبضاتهم تشبه نبضات قلبك عندما يركض خلفك كلب متوحش تحس بأن سرعة نبضاتك ترتطم ببعضها.

يكفيك عزيزي القارئ ما قرأت من مناظر تقشعر منها الأبدان ويرتجف منها الوجدان ويتعوّذ منها الإنس قبل الجآن! ولنقف لوهلة متسائلين ما ذنب تلك الطفولة التي اغتصبت أمام مرئي الأنام دون حياء بكل تلك الوحشية والحيوانية غير آبهين لأكذوبة السلام! ما الذنب الذي اقترفته تلك العيون لكي ترى ما ترى وتشيب تلك البراءة قبل عمر المشيب! بأي ذنب تلك البلدان قصفت وأطفالها شرّدت ونساؤها رمّلت! وإلى متى سيظل شلال الدم جارٍ بكلّ هذا العنف في سوريا والعراق وفلسطين واليمن السعيد الذي أظن أن ابتسامته قد تبددت وأحلامه قد اندثرت وطموحات أبنائه قد سرقت وحضارته قد تدمرت!

 

ماذا عساي أن أقول؟ أأقول عن تلك الطفلة الصغيرة التي تمسك بيدي أمها التي نازعت كثيراً تحت ذلك الرداء الرمادي الملعون حين أرسلت آخر أنفاسها عربوناً صادقاً منها لطفلتها كي تعيش!

 

شعورٌ مخيف مريع ارتسم على وجه تلك الطفلة (الذي لا تكاد ترى ملامحه من المساحيق الرمادية التي وضعتها تلك الغارات المباغتة بعناية!) جراء اقتراب أحد أفراد الإغاثة منها أظن أنها خالته وحشاً! وحشا في مسلسل درامي كانت هي احدى ضحاياه كانت فزعةً جداً من أصوات الصراخ وإنذارات الإسعاف ودوّي الطائرات الحربية التي تقذف القنابل بين الحين والآخر وهي تبكي بحرقة وتصرخ: يلا ماما قومي قبل ميجو يضربونا!! كان يجب أن ترتسم في مقلتي تلك الصغيرة ألوان من الفرح والسعادة بدلاً من ذلك الكابوس.

 

لقد أثار رعبي ذلك المنظر أياماً عديدة وأنا أفكر كيف لقلب تلك الصغيرة أن تقف على أشلاء أمها تقاوم وعلى ذكرى أبيها تلاطم! والأمر الذي زادني حرقةً وأسى هو ما قرأته في دراسة تبحث في أثر الحروب بإحداث "Post Trauma Stress Disorder" (اضطراب ما بعد الصدمة) هذا الاضطراب الذي يحدث عند تعرض الشخص لحدث مؤلم جدا(صدمة) يتخطى حدود التجربة الإنسانية المألوفة (أهوال الحروب ورؤية أعمال العنف كالتعرض للتعذيب والاعتداء الجسدي الخطير والاغتصاب أو فقدان أحد أفراد العائلة الأعزاء وغيرها) بحيث تظهر على شكل عوارض نفسية وجسدية.

 

تبين من خلال تلك الدراسة أن الأطفال الموجودين في أكناف المعارك يتعرضون لذاك الاضطراب بشكل أكثر شدة لأنها تؤثر في تطوّر الطفل فالأطفال غير قادرين على تحمل رؤية القتلى والأوصال والأشلاء وأعضاء الجسم المقطعة والدمار في الممتلكات أضف إلى ذلك الخوف والهلع الكبيرين جراء الانفجارات وتحطم الطائرات غير المتوقعة والقتال المسلح المباغت بين الحين والآخر.

وهناك نسب متفاوتة لظهور تلك العوارض النفسية والجسدية فالقلق مثلا نسبة التعرض له أكبر نسبة تصل الى 55بالمئة والاكتئاب تصل الى 37بالمئة واضطراب النوم تصل إلى 33بالمئة والعوارض الهستيرية تصل الى 21بالمئة وضعف الشهية تصل الى 19بالمئة والكوابيس تصل الى 13بالمئة والخوف تصل الى 40بالمئة.كم تحمل تلك الأرقام الصغيرة من المآسي الكبيرة ما تحمل ! كم نستهين جداً بقرائتها ولا عجب في ذلك فقلوبنا قد انتزعناها وآثرنا الحجارة أن تحل محلها! وخوفهم لم يعد سوى حكراً لهم فيهم.

الإحساسُ بالخوف مهيب مريع مميت! مميت ولكن بشكل لحظي! فلقد فقد أولئك الأطفال الركن الأساسي الذي ترتكز وتستقر به البلدان ولا تتجلى الحياة الا بوجوده ألا وهو الأمان! سمفونية نبضاتهم تشبه نبضات قلبك عندما يركض خلفك كلب متوحش تحس بأن سرعة نبضاتك ترتطم ببعضها بل وتتوقف للحظات ثم تشهق مرة أخرى بكل قوة ذعرا أن تهرب آخر أنفاسك منك وتموت!

 

لا أعلم متى ستفيق البلدان العربية من سباتها الذي طال؟! ولا أعلم متى عقولها ستستنير؟ ومتى ستصحو ضمائرها! لما يتجاهلون كل ما يجري وكأنهم يضعون أضمدة سوداء أمام أعينهم؟! وكم يستفزني الصمت الحالي الذي يعم أرجاء بلداننا أدليل العجز والاستسلام أم هدوء لما قبل عاصفة ولادة فجر سعيد جديد! لم أجد إجابة شافية لكل تلك التساؤلات التي غزت عقلي إلى أن لمعت قصيدة أحمد مطر بين عيني وأدركت حينها أن كل حرف نطق به فوه صحيح الموضع وسليم المكان!

 

لمن نشكو مآسينا؟ ومن يصغي لشكوانا ويجدينا؟

أنشكو موتنا ذلا لوالينا؟ وهل موت سيحيينا؟!

قطيع نحن والجزار راعينا.. ومنفيون.. نمشي في أراضينا

ونحمل نعشنا قسرا.. بأيدينا ونعرب عن تعازينا.. لنا.. فينا!

ولاة الأمر.. ما خنتم.. ولا هنتم ولا أبديتم اللينَ..

جزاكم ربنا خيرا كفيتم أرضنا بلوى أعادينا.. وحققتم أمانينا..

وهذي القدس تشكركم.. ففي تنديدكم حينا وفي تهديدكم حينا..

سحقتم أنف أمريكا فلم تنقل سفارتها ولو نقلت.. لضيعنا فلسطينا!

ولاة الأمر هذا النصر يكفيكم ويكفينا.. تهانينا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.