شعار قسم مدونات

في ذكرى سقوط غرناطة

blogs- غرناطة

فلنتصور أن تشن بعض دول أمريكا الجنوبية ذات الأصول الهندية حرب استرداد لطرد الأمريكيين البيض إلى بلدانهم الأصلية بأوروبا، ليتم تهجيرهم من مدنهم، تشتيت أمتهم وإلغاء هويتهم وثقافتهم التي ترسخت على ما يربو على المائتي سنة قليلا.. سيبدو الأمر جنونيا أو ضربا من الخيال العلمي ينطوي على نزعات إبادة لا تخطر إلا لعقل مريض..
 

لكنه حدث فعلا.. حدث لشعب رسخت هويته الثقافية عبر ما يزيد على 800 سنة من الوجود والحضارة والانصهار.. لم يكن يختلف عن الأمريكيين كثيرا من حيث إنه كان مزيجا من الأعراق والثقافات والملل.. الفرق في هذه الحال أن جل تلك الأمة الشهيدة كانت من أبناء البلد الأصليين الذين اختار أسلافهم دين الإسلام..
 

كابد أحفاد الأندلسيين بالشتات عناد الزمن لحفظ ذاكرة أجدادهم والإبقاء على كثير من جوانب ثقافتهم حية في مظاهر العمران والموسيقى والزجل والأمثال الشعبية، في أنماط العيش وفي التسامح.

والغريب أن اجتثاث الأندلس شعبا وحضارة يبدو للذاكرة الأوروبية حدثا مقبولا من الناحية الأخلاقية تتطلبه رغبة التاريخ في إجلاء المحتلين.. تلك الرغبة التي تتوقف عند حدود اسم إسرائيل وتنعكس عند اسم فلسطين التي كانت فلسطين مذ كانت.

ما عسانا أن نقول في ذكرى سقوط غرناطة..؟ وكم سقطت غرناطة في تاريخنا العربي المعاصر من مرة ..تنصرف قلوب الأحرار خاشعة إلى دمشق، إلى القدس، إلى القاهرة، إلى الربيع العربي الموؤود، إلى اتفاق حاضرنا وماضينا على الهزيمة، على النكبة بعد النكبة، على التشرذم ..لنحس بالذكرى أشد إيلاما في هذا العام العربي الحزين..
 

لأننا ننظر انكساراتنا الراهنة في مرايا الماضي ونستلهم آمال الأسلاف في تحديات اليوم، نصب أجدادنا المهجرون خيامهم على ساحل البحر بمرأى وطنهم في انتظار عودة لم تكن يوما كما ينصب الفلسطينيون مخيماتهم على أبواب الموطن السليب لتدقها قلوبهم كل يوم.. وكما تنتظر مخيمات المهجرين السوريين موعدا من حنايا الوطن، أورثوا الحلم أبناءهم ثم أحفادهم، استأمنوهم على ذاكرة حضارة وعلى حس انتماء، على ثقافة بنكهة عربية متميزة جدا، على رؤيا جميلة..
 

ماذا بقي في أيدينا اليوم سوى بعض الذكرى وكثير من الشجن؟ لكن الأمل باق حتى وإن كانت هذه الهبة العربية المعاصرة مجرد بداية والعزم منعقد حتى وإن كان بقلوب قلة من الحالمين بغد عربي مشرق، كلنا أندلسيون اليوم، وسنكون غدا.. نطرق أبواب أوروبا طرق الندّ المقتدر المتسامح لا طرق المتسول على موائد الذلة، لنذكرهم أن طرد شعب مسلم من موطنه بدوافع التطرف الديني ليس تحريرا ولا استعادة بل إبادة همجية واغتيال لأمة قدمت للبشرية تراثا زاخرا ومثالا رائعا في التعايش والتسامح الديني، سنذكرهم أن عودة القدس إلى أهلها وعودتهم إليها استعادة مشرفة مشرقة لإنسانيتنا من براثن التطرف والعنصرية البغيضة..

إن الأمم والشعوب لا تموت بالتهجير ولا الحروب لكن بتلاشي ذاكرتها وارتدادها عن هويتها. لقد رفض الأندلسيون بعد سقوط غرناطة التخلي عن لغتهم وثقافتهم العربية على الرغم من محاكم التفتيش وكل ألوان القهر والنكال وكانت لهم تجربة فريدة في الحفاظ على تراثهم في سرية تحدت المعقول..
 

كما كابد أحفاد الأندلسيين بالشتات عناد الزمن لحفظ ذاكرة أجدادهم والإبقاء على كثير من جوانب ثقافتهم حية في مظاهر العمران والموسيقى والزجل والأمثال الشعبية، في أنماط العيش وفي التسامح. يقول المثل الشعبي "أهل الأندلس يفهموا الإشارة" ليتنا نتذكر ذلك جيدا نحن الذين نغتال لغتنا كل يوم ونسارع إلى التنصل من عروبتنا عند مفترق كل أزمة أو ترتهننا خطابات الاستغباء والتفرقة والإقصاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.