شعار قسم مدونات

عَن أندَلُسِ كُلّ مِنَّا

blogs - الأندلس

يَقولُ دَرويش؛ فِي خِتامِ قَصيدته (أحد عشرَ كَوكبًا عَلى آخر المَشهد الأندلُسي): هَل كَانت الأندلسُ هَهُنا أم هُناك؟ عَلى الأرضِ.. أم فِي القصيدة؟ وَغَفُل دَرويش أنه رُبما تَكون الأندلس هُناك.. فِي قُلوبِنا!  مُذْ قَرأتُ عَن التَّاريخ الأندلسي وَحضارة الأندلس وأنا مُغرمةُ بِها، تَملَّكنِي جَمالُها.. رُغم أنَّ قِراءتي واطلاعِي عَنها لَا يَتعدى غَيضًا مِن فَيضِ رَوعتِهاِ وَجلالها.

 

صِرتُ أتحدث عن الأندلس كثيرًا وَكأنّه وَطنِي أو أنّه استوطنني! أقولُ لِصديقاتِي مِرارًا أنني أتمنى زيارة "الأندلس" تَقولُ إحداهنّ: تَقصدين إسبانيا؟ أشعرُ بِغصةٍ فِي حَلقِي، وأقولُ فِي نَفسِي: لَا بأس، الأندلس سَتظلُ أندلسًا كَما بَقيت القُدس مِن بَعدها هِي وَلَم تَغدُو (أورشليم)!  أقرأ عَن أزِقَّةِ البَيازِين، عَن قُرطبة وَمسجدها الكبيرُ، عن مَآلقة وَعن قُصورِ الحمراء، تأسرني بِجمالها، وأُردد قَول الرندي: "لِمثلِ هَذا يَذوبُ القلب مِن كَمدٍ" وَيذوبُ قَلِبِي حَقًّا، لِضياعِ حَضارةٍ كَهذه، وَلِغيابها عَن أذهان الجميع حَتّى إن بَعضهم لَم يَسمع بِها يومًا!

 

أندلسُ كُل مِنّا هُو وَطنه الضائع، أو حُلمه البعيد.. وَأؤمن أنَّه حِين يُحسن كُلّ مِنا التمسك بأندلسه الخاص أننا سنسترد الأندلس الحقيقيّ، فُردوسنا المفقود.

أتصفحُ كُتب التاريخ التي تَتناول الحُقبة الأندلسية، أتوجس حِين أصلُ لِلنهايةِ.. مَاذا لَو يَقولون أنَّ الأندلس لَم تسقط؟ وأنَّ مَسجد قِرطبة الكبير لَم يُصبح كَنيسة؟ ومَحاكم التفتيشِ لم توجد؟ وأن َّبن الأحمر لَم يُسلم أو يستسلم، أنَّه لَم يَخن!  لَكن هَذا لَا يَحدث، وأنا أعلم دائمًا أنّه لَن يَحدث، وأدمعُ كُلَّ مِرةٍ كَأنها الأولى التي أقرأ فِيها أن الأندلس سقطت، سُقوطًا مُؤلمًا، وأنَّها وإن كَانت فِي ذِكرنا أندلسًا فَهِي فِي الخَرائطِ وَعلى الألسنةِ إسبانيا؛ سَواءً شِئنا ذَلك أم أبينا، وَلعلهُ كَان ليُصبح أقل إيلامًا عَلى قُلوبِنا فِي سُقوطها إن سَقطت بِظُهورِ شَجاعة وإباءٍ مِن بن المُتمرد الأحمر لَا بتسليمٍ وَخُنوع..

 

عَلى كُلٍّ؛ فرُبما الأجدرُ بِنا والأسلمُ لِقلوبِنا أن نَكُف عَن رثاء الأندلس، وألَّا نَبكيها دَمعةً واحدة بَعد اليوم.. الأجدرُ بِنا أن يُحافظ كُلٌّ مِنّا عَلى أندلسه الخاصّة -أو غِرناطته، عِلى غِرارِ رَضوى عاشور رَحمها الله-، قَبل أن تضيعَ وَتسقطُ فَيكون الرثاء رَثائين، وأندلسُ كُل مِنّا هُو وَطنه الضائع، أو حُلمه البعيد..  وَأؤمن أنَّه حِين يُحسن كُلّ مِنا التمسك بأندلسه الخاص أننا سنسترد الأندلس الحقيقيّ، فُردوسنا المفقود.

 

لَا تُضع غِرناطتك، أبقِ عَليها بِكلِّ قُوَّتِك وَلو كَلف ذِلك مُواجهة فَردية ونهاية كنهاية مُوسى بن أبي غسان، فِإنه قَد رَحلَ لكن مواجهته تِلك باقية في كلّ كتابٍ للتاريخ، فِي كُلِّ ذِكرٍ للشجاعة، وَفِي قَلبِ كُل حاملٍ للأندلس بدَاخله.

 

وأخيرًا، وَليسَ آخرًا.. فَما لِلقصّةِ مِن نَهايةٍ بَعد، فَلنعلم أنَّ حضارة الأندلس لَيست أوَّلُ حضارةٍ لِلمسلمين تَسقط – وإن كَانت حَضارةُ الأندلس مُتفردةً بِعظمتها- وَكذا لَم تَكن الأخيرة، وَحضارةُ العثمانيين عَلى ذلك تَشهد، لَكن بِيدِ كُلٍّ مِنّا أن يُنهِي أيَّ سُقوطٍ قَادم، قَبل أن يبدأ، وأن يَكف عَن الرثاء وَيُحسن العمل، وَعلى قَدرِ سَعينا تُكتب النّهاية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.