شعار قسم مدونات

"بماذا سأرحل" و"ماذا كسبت"؟

blogs- الرحيل

تقف كل يوم عند نافذة المنزل ترقب غياب الشمس وهي تبكي، ولصغر سني يومها وشدة سذاجتي استقبلت بكاءها هذا بكثير من السخرية والاستهزاء، وبدلا من أن أكفكف دموعها عن وجنتيها كنت أسألها مستنكرة "هل لديك كثيرا من الدموع حتى تذرفيها كل يوم وساعة؟"، فتقول لي "بل هو العمر الذي يمضي ولا يعود".
 

كلمات ما كانت لصغيرة مثلي أن تعي معناها في ذلك العمر والوقت، لربما لظني بأن حياتي لا زال فيها الكثير الكثير من الأيام فلا حاجة عندي لأبكي انقضاء بعضها، أو ربما لقصور في عقلي صور لي بأن الموت لايزال بعيدا عني وأن الصغير لا يموت حتى يكبر! وماتت جدتي "رحمها الله"، ولم أعد أرى من بعدها من يبكي غروب الشمس متأسفا على عمر ولى ولن يعود -أو بالأصح لم أرى بعدها من فعل فعلها- ومضت الأيام والسنين وأصبح الصغير كبيرا وعاثت فيه الحياة حزنا وسعادة، فرحا وترحا ووقفت ذات الموقف والمكان!
 

شغلتنا الحياة فأشغلنا الله فيها، حتى نسينا كم مضى من أعمارنا، بينما اشتد الطمع فينا حتى أصبح كل شيء رخيص في مقابل مكاسبنا وإن كانت أعمارنا.

أرقب غروب شمس آخر يوم في هذا العام، نعم لقد انطوى هذا العام ولحق بمن سبقه من الأعوام التي مضت، وحاولت أن استحضر دموع العجوز وخشوعها ولو "كذبا" إلا إنها لم تحضر! فسألت نفسي وقد استنكرتها: أيبكي غيرك على انقضاء يوم من عمره ولا تبكين على مرور عام بأكمله؟
 

ولأن نفسي ما كانت لتثلج صدري بإجابة مريحة أفهمها! قررت أن أترك النافذة وأجلس لأمر آخر، ففتحت التلفاز أقلب وأقلب علي أجد ما يشدني فأتابعه، فلم أجد سوى الزغاريد والأغاني وأناس مبتهجون أو "يصطنعون البهجة" يوزعون التهاني والتبريكات للجميع بحلول العام الميلادي الجديد، ويطلبون منهم الترحيب بالضيف الجديد الذي "نزل أهلا ووطئ سهلا"..
 

وبينما أتابع وإذ بهاتفي يضيء وينطفئ وكأنه يعلمني بأن هناك من يريدني، فتناولته وإذا بعشرات الرسائل تهنني بالأمر ذاته، ولأن التهاني لا ترد إلا بأفضل منها، هذبت كلماتي ونمقت عباراتي وأعدت إرسالها وكأنني أنجز واجب مفروض علي، ثم جلست شاردة الذهن مرة أخرى في جدتي العجوز التي ما كانت لصورتها أن تبرح مخيلتي طوال هذا اليوم، وكأن القلب قد انفطر إلى شطرين يأبى كل منهما أن يقترب من الآخر، وأنا بينهما حائرة لا أعلم إلى أي منهما أميل، أأفرح كسائر الفرحين بهذا الضيف الذي حل ولم يستأذن! أم أحزن على ذلك الذي ولى من عمري ولن يعود ثانية ولم يستأذن أيضا!
 

سواء أنحن من ودعنا العام أو هو من ودعنا فقد مضى وأصبحنا في تعداد تقويم عام ميلادي جديد، دون أيما محاسبة أو مراجعة من أحد منا لذلك العام المنصرم، فالجميع مشغول باستقبال ما هو قادم عما قد فات، فهل هانت علينا أعمارنا!؟ أم لم يعد لحياتنا ذي قيمة حتى نبكي عليها كما كانت تبكي العجوز؟!
 

وهل هناك حياة أكثر ضنك من الحياة التي نحيا!؟ أم هل هناك من هو أتعس مِن مَن نام وقام وهو يلهث وراء المال والكسب والرزق؟!

فاستوقفت نفسي "رغما عنها" لدقيقة حتى أقف وقفة صحيحة على ثمة أمر في الأمر مختلف لا يمكن إغفاله أو المرور عليه مرور الكرام، ألا هو "ماذا كسبت" و"بماذا سأرحل"؟ إلى أن أيقنت بأن جدتي ما بكت يوم بكت إلا وهي مشغولة بـ "بماذا سأرحل؟" وبماذا سألقى وجهه عز وجل وقد استحضرت آخرتها بدنياها التي مهما طالت ما هي إلا أيام معدودات..
 

ولا أظنها كانت غافلة عن قول سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما انفقه، وعن جسمه فيما أبلاه"، وأما نحن ما جفت دموعنا ولا اشتدت قلوبنا قسوة إلا سعيا وراء "ماذا كسبت؟" في الحياة الدنيا، أهو الولد أم المال أم الجاه والسلطان؟ ويا حبذا لو كانوا مجتمعين..
 

ولهذا شغلتنا الحياة فأشغلنا الله فيها، فأصبحنا بين لاهث وراء ملذاتها وبين منكب على شهواتها -إلا من رحم ربي- حتى نسينا كم مضى من أعمارنا بلا طاعات أو عبادات، بينما اشتد الطمع فينا بما كسبت أيدينا وبما سوف تكسب حتى أصبح كل شيء رخيص في مقابل مكاسبنا وإن كانت أعمارنا! فحق علينا قول من لا ينطق عن الهوى المصطفى عليه السلام "تعس عبد الدينار.. تعس عبد الدرهم"، وقوله عز وجل في كتابه الحكيم "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" صدق الله العظيم، وهل هناك حياة أكثر ضنك من الحياة التي نحيا!؟ أم هل هناك من هو أتعس مِن مَن نام وقام وهو يلهث وراء المال والكسب والرزق؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.