شعار قسم مدونات

أخبرهم يا جدّي

blogs - قراءة

إنها أيامُه الأخيرة المعدودة.. فقد اعتصره المرض الشديد شهورًا يحسبُها هو ساعةً من نهار بما واجهها به من رضىً وتسليم، أما أحبابُه فمِن حوله يتألمون لألمه الذي لا يُظهره، ويرون الدقيقة تمرُّ كوقت أضعافها.. وكأن الدنيا بعدلها إذا ما آلمت الشخص بنفسه، آلمت من حوله به وآلمته بمن حوله خَشية مغادرة الدنيا دون الكَبَد الذي لا بُدّ منه!

 

كان والدًا معطاءًا وجدًّا لطيفًا، لا يَذكُرُ أيٌ من أولاده وأحفاده ذكرى سيئةً معه تُقسّي قلوبهم، فتخففَّ من وقع الآلام عليها، أو من سوء فكرة مفارقته لهم بعد جميل السنين التي عاشوها معًا. فحتى في أيام مرضه، لم تخُنْه ذاكرتُه بالرغم من خيانة الكثير من سائر أعضاء جسده.. ما قابل أحدًا إلا عرفه! وذكّره بموقف جميل تشاركه معه.. كان يوصي الجميع بخير الأعمال وحسن تربية الأولاد، والبعد عن المال الحرام.

 

عاش جدّي طول حياته جبّارًا لخواطر الجميع، ناصرًا للمظلوم الضعيف، سمع مشاكلي الساذجة التي حدثت في المدرسة، ومشاكل جدتي وأولاده في بيوتهم، واهتم لها، وساعد في حلّها.. كان لبقًا سمحًا دائم الابتسام.

كنت كبرى أحفاده، وتلك التي يعطيها من العلم والنصح ما لا يعطي غيرها؛ ظنًا منه أنها الأقدرُ والأعقل، وحبًا زائدًا لروحها الشبيهة بأمها الشبيهة به لا شك! لقد كانت جلساتي معه دائمًا غنية بأصول العلم وعظيم الكلام، بالرغم من أنني لم أكن كبيرة إلى الحد الذي يسمح بأخذ ما كان يقوله على محمل الجد والتطبيق.. لكنْ لا بُدَّ وأنه كان يعلم أنّ حسن الكلام لن يذهب جفاءً، بل سيمكث حتمًا في الأرض. ليس المقام لذكر ما كان بيننا من جلسات، ولا تفاصيلها، ولا حتى لحظات مفارقتي لروحه الرقيقة الطاهرة، وانقطاع الجديد فيما كان بيني وبينه -فالقديم محفوظ مصون-؛ بل المقام لذكر الموضوع كلِّه مختَزَلاً فيما حدث في لقائنا الأخير.

 

دخلتُ عليه في آخر يوم له على هذه البسيطة، أخفي دمعتي حتى لا يُبدي استياءه وعدم رضاه كما حصل في لقائنا السابق. كالعادة اسأله عن حاله فيجيب بصيغ الحمد كلها راضيًا عن الله حتى يرضى عنه.. ذكَّرَني بأنني كنت كثيرة الكلام في الصغر، وكيف أنه في مرّةٍ سلّط على جهاز التحكم بالتلفاز مازحًا حتى يقطع كلامي بعد أن صدّعت رؤوس الجميع، وضحكنا. ثم بدأ بالجد من الكلام فقال لي: " يا جدو يا حبيبتي، رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "صنائع المعروف تقي مصارع السوء"، اللي بيعمل خير يا جدو.. بلاقيه" كان هذا آخر ما قاله لي، وفي الليلة ذاتها ودعناه.

 

إلى هذه الليلة، لا أدري ما الذي تذكره جدي حتى خطر بباله هذا الحديث، ما هو المعروف الذي كان قد صنعه فتذكره!.. أو هل وصل إلى أنّ مجابهته للمرض كانت نتاج معروفٍ له في السابق؟.. أو أنه رأى مقامه عند ربه مثلاً! لا أعلم! لكنّ ما أعلمُه أنه لا شك أعطاني ما ظنَّ أنها الخلاصة، وأنّ هذا وحدَه ما يفخر أنه سيحمله معه حين يفارقنا.. وما أعلمه جيدًا أيضًا أنها رسالة لي ليس على تجاهلها.

 

عاش جدّي طول حياته جبّارًا لخواطر الجميع، ناصرًا للمظلوم الضعيف، سمع مشاكلي الساذجة التي حدثت في المدرسة، ومشاكل جدتي وأولاده في بيوتهم، واهتم لها، وساعد في حلّها.. كان لبقًا سمحًا دائم الابتسام، وما آذى يومًا غيره ولو بكلامه.

 

في المقابل، لا أظن أنه أخذ نصيبًا من الدنيا بقدر ما عمل من الخير فيها-بمقاييسنا القاصرة طبعًا-. فَقَد جدّي والديه أمام عينيه في النكبة، وواجه مشاكلاً في الدراسة والعمل، وفي الزواج أيضًا.. وقف إلى جانب الكثيرين ثم خذلوه عندما احتاجهم، وآذاه أقرب الناس إليه! لقد واجه الكثير من خيبات الأمل إن صح التعبير..

 

أهل الخير أولئك، أمثالك يا جدي.. موجودون بيننا، لكنهم -على عكسك- يائسون! طمئنهم يا جدي! أخبرهم عن قداسة أفعالهم في الأرض، وصداها في السماء.. واطلب منهم أن لا يتوقفوا! حتى وإن لم يجدوا لمعروفهم أثرًا بعد.

مع كل ذلك، فقد تمسّك بفعل الخير إلى آخر لحظة، غير آبهٍ بالنتيجة، ولا بردّة الفعل المقابلة.. متيقنًا أنه سيرى ما وعده ربه حقًا، وإن تأخر عنه ذلك.. وأظن أن هذا كان وراء آخر وصية له في حياته! بهذا المثال الحي-وإن كان حيًّا في قلبي فقط-، علّمني جدي أن أواجه كل تحوّرٍ لمعنى المعروف وما يترتب عليه!

 

فمجردُ استذكاري لهذه القصة يُشعرني بالسلام تجاه كل تفصيل في هذا الكون، الجزءُ الأسود اليائس من متابعة فعل الخير في داخلي يموت، فتلك الأرواح الجميلة هي من علمتنا المعاني الحقيقية للأشياء. لا أتحدث عن استظهار المعروف الذي ينتشر بيننا، ولا التلطف الزائف أو النفاق الاجتماعي الذي يأكل علاقاتنا أكلا.. ولا المعروف الذي يُتبعه صاحبه بالمن والأذى؛ بل معروف كمعروف جدي يصنعه بطيب خاطرٍ دون ضجيج، لا انتظارَ فيه للجزاء السريع -مع كامل الثقة بوجوده-، ولا توقُّفَ عنه إذا انقطع المديح، أو استتر نتاجه خلف حكمة القدر. معروف يصنعه صاحبُه بقلبٍ وجل، لا من بُعد الجزاء، بل خشية أن يشوب العملَ حظُّ نفسه.

 

أهل الخير أولئك، أمثالك يا جدي.. موجودون بيننا، لكنهم -على عكسك- يائسون! طمئنهم يا جدي! أخبرهم عن قداسة أفعالهم في الأرض، وصداها في السماء.. واطلب منهم أن لا يتوقفوا! حتى وإن لم يجدوا لمعروفهم أثرًا بعد. أخبرهم يا جدي أن البِرَّ دين، وأن أفعال الخير لها عند الله حرمة، يحفظُها ولا ينساها!

 

صبّرهم يا جدي على طول المسير، وانقطاع العلامات، وغياب الأعوان وكثرة الخبث، وازدراء الناس.. وأخبرهم أن صاحب المعروف ليس أبلهًا أو ضعيفًا وإن وُصف بذلك، أو قوبل عملُه بغير ما استحق! وأخبرهم كما أخبرتني أن صاحب المعروف كغيره يُصاب فيقع، لكنه إن وقع وُجد بعد وقعته واقفًا، كرامةً لمعروف صنعه! ذكّرهم يا جدّي أن حوائج الناس إليهم، إنما هي من نعم الله عليهم.. وأنّ الخير يُهدى إلى السماء وحدها، فمقاييس الجزاء في السماء عن تلك التي في الارض مختلفة، إنها أعدل وأحكم!

 

أخبرهم أن الدنيا تضحك لفعلهم، وتأنس بصبرهم، وتدرس من استمرارهم والثبات. أخبر اولئك الطيبين يا جدي أنهم نكهةُ الدنيا وطعمُها، وأن طيبَ قلوبهم هو نبض هذا الكون. أخبرهم يا جدي أرجوك، أن لا يتوقفوا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.