شعار قسم مدونات

كيف نستعيد المدن التي تحولت إلى مقابر ؟

blogs-معامر

كأنها جدران غرفتك، تختار لك ألوان ثيابك، كأنها نافذتك، تخبرك بالمكونات الأولية ليومك، وحين تزيح الستائر تتغير كميات الهواء في رئتيك، وتنتظم من جديد رحلات الدم إلى قلبك.

 

أرجوك لا تهمل شيئاً عن التفاصيل من حولك، تفقد البريد، اخرج لتناول الإفطار، اختر مقبض القهوة الذي يناسب انحناء يدك، فلتتعرف كيف تشكلت الأشياء، وعد لها من وقت لآخر، الأبواب الآن قد تصنع لك الأمان، وعند إغلاقها قد تنتزع منك الخوف، ومن الممكن أن تفزعك؛ لكونها تحاصرك حين تقترب بإحساسك من حقيقة أن بيتك تحول إلى قفص.

 

العاصمة ووسط المدن الأخرى التي تمثلها، والتي نطلق عليها المركز، دائما ما تعكس أبهة السلطة وإرادتها بروموزها الاحتفالية وبنياتها وهندستها، دوماً ما تعبر عن قيم المؤسسة القائمة والمتحكمة في البلاد، بطريقة تعطي الأحياء بدوامها

إنها الأماكن التي تتحرك ويدور يومك حولها، تماماً مثل كتبك ومحطات الراديو المفضلة، هي "الكتالوج" الذي يجعل من معتقداتك بأن هذه هي الطريقة المثلى لتكون حياتك ممكنة، وفيما أتأكد من فهمك للفكرة، أحاول أن أخبرك أن هذا ملخص الهندسة المعمارية.

 

هل تخيلت من قبل أن أولئك المعمارين -الذين يرتعون وراء حواسيبهم لوقت طويل في مكاتبهم غير المريحة أحياناً، أصحاب الأعين شبه المنومة مغناطسياً عند انتهاء يومهم- غير قادرين على امتلاك مساحة أمتار قليلة مما يصممونه لزبانئهم، وهم في الأغلب المبهورون بالرسومات والمزعجون بطريقة حديثهم، قد يكونون الأخطر في العالم.

 

نعم أقول مثلك تماماً بأن المباني والمرافق التي ينتجونها ليست المحور الذي تدور حوله الحياة البشرية بأكملها، ولكنهم يملكون حقاً القدرة على توجيه نشاطنا البشري، وبأيديهم الأدوات المحركة لسلوكنا وراحتنا اليومية، وما يتلخص عنها من حس مجتمعي وشعور لدى الناس بالانتماء لأوطانهم ومساهمتهم في الحفاظ عليها، إن منتج المهندسين المعمارين هو الصورة الحقيقة لترابطنا، لماذا نسعى للحصول عليه؟ ربما لدفئئا الحي في عادتنا وتقاليدنا، والقرب البشري بيننا.

 

هناك إيقاع للطريقة التي تنظم مدننا في الشرق الأوسط، وللطريقة التي تسير بها حياتنا، وليس هناك ارتجال، ولو هامشياً، ورغم اختلاف مواقع تواجدها، ولكنها تبدو مثل قطعة واحدة نتجت عن واحدة أصيلة، فدوماً لدينا العاصمة ووسط المدن الأخرى التي تمثلها، ولنطلق عليها المركز، وهي تعكس أبهة السلطة وإرادتها بروموزها الاحتفالية وبنياتها وهندستها، دوماً ما تعبر عن قيم المؤسسة القائمة والمتحكمة في البلاد، بطريقة تعطي الأحياء بدوامها.

 

نجد أيضاً ما حول المركز موضوعاً لفرجته ومراقبته، وهي الضواحي المحكومة دوماً بتصور وضعي يخطط للسكان معيشتهم، ويقرر فيه حركة الناس وأماكن تواجدهم، ورغم الهندسات المعمارية المختلفة لهيكلة الضواحي إلا أن أساسها الاقتصاد في التكلفة، والوظيفية في تصاميها، وبطريقة تجعل أعين السلطة وأيديها حاضرة باستمرار ومنتشرة للتحكم بإرادات الفاعلين فيها، وباعتقاد عجيب أنها الطريقة السحرية لمواجهة ما يهدد النظام، ولجعل الأجساد طيعة والقوى هادئة، حتى أضحى هذا التخطيط عنفاً شرعياً يخرج المضمون السلبي في التنظيم الاجتماعي للسكان.

 

نحن الذين صنعنا غابات من الأبراج والكتل الخرسانية غير المكتملة عوضاً عن مدننا القديمة ذات الحجارة المخصبة بالجمال؛ تلك الكتل الخرسانية التي رزقنا من نسلها العنف والقسوة

يكفيك اليوم أن ترى ما يجرح العين بفجاجته في عواصمنا، ولتسأل نفسك كيف ولد هذا الخراب ونمت هذه العشوائيات، ونحن الذين نتفاخر بأننا نتملك أقدم العواصم تاريخاً وأننا أصحاب أول المساكن المأهولة بالسكان في العالم، ونحن كذلك فعلاً، فكيف نحصد الشوك وقد زرع أسلافنا ورداً؟ وما معنى خبراتنا بالبناء كل هذه المدة من آلاف السنين؟

 

إنها البداية من تخطيط المدن، ولن أصور لك تخطيط المدن برقعة الشطرنج التي يحرك الأذكياء بيارقها، ولكنها أشبه بتعريف الروائي والرسام الأمريكي هنري ميلر للشباب بالشيخوشة المبكرة وإحساسه الشخصي بشخصيته المرحة بعد سن الثمانين، إن هذا التعريف في الحقيقة يفسر حماس مخططي الدول الاستعمارية لتغيير معالم مدننا وشكلها، ظناً منهم أن هناك عطبا ما فيها، ورؤيتهم بأن أعظم إنجاز يمكن تحقيقه جعل مساحتنا غير المتحضرة جذابة ومبهرة؛ ليطمس عمراننا التقليدي المتشابك عبر الحضارات والقرون وبفطرته القائمة على النبل، والجمال، والعاطفة، والحب، والحرية، ودون أن يستأذن منا أحد.

 

وتحت مسمى التحسينات دمرت الشوارع، ونقلت الآثار، وبات هناك خلل في التوازن الدقيق بين الأماكن والطوائف، ومورس الفصل والعزل، وأخبرونا بلهجة الطبيب أنه العلاج المريح لإنهاء الألم، وكأن الأهوال من حروب وأوئبة لم يعرفها العالم المتحضر، وأن عالمهم ليس فيه خير وشر، وقبح وجمال، وأمل ويأس، ونحن الذين صنعنا غابات من الأبراج والكتل الخرسانية غير المكتملة عوضاً عن مدننا القديمة ذات الحجارة المخصبة بالجمال؛ تلك الكتل الخرسانية التي رزقنا من نسلها العنف والقسوة والإرهاب والطغيان.

 

ونستخلص في الفترة الطويلة من الانهيار البطئ الذي تعرضت له بلادنا، فقدان التسامح الذي سببه الانقسام المعماري فيها، حسب الطبقة والعقيدة والثراء؛ مما انعكس على المجتمع، فبدلا من الانتماء للوطن أصبح الانتماء للجماعة، وهوية الشخص أضحت منفرة من مكان لمكان، فلا نتعجب من السهولة التي تدمر فيها مدننا؛ حيث التشويه بين المختلفين عقديا وفكريا، تشويه يجعل كل واحد يتحسس موضع سلاحه عند ذكر مدينة من يختلف معه.

 

قد نعلم -والسطور هذه تقرأ- أن ثمة مباني ذات قيمة تاريخية ومعمارية وفنية راقية تتهاوى بشكل عشوائي وأشبه بالمنظم حيناً، كما تهاوى الرصاص على مدننا منذ عقود متلاحقة، حتى أعظم المدن التي هي مصدر فخرنا، قد تصل قريباً إلى يوم لن تعرف فيه نفسها إذا نظرت في المرآة، قد تجد خاصرتها مكان رأسها، سترى نفسها غريبة بلا أولادها وسكانها الذين كانوا يلجأون إليها من ضنك المدن المجاورة.

 

ستبكي متحسرة، كأن أجزاءها بترت حين ترى أبناءها قد شكلوا فيها مناطقهم الطائفية والطبقية، وإن فطن الناجون من الموت لحقيقتها واشتعلت ذاكرتهم بماضيها، فلن ينتصروا على ما ارتكبوه من أخطاء، وكذلك الجهل بتاريخ بلادنا المعماري المترابط مع الاقتصاد والثقافة والاجتماع، وأيضاً الغرق في تأمين لقمة العيش والحياة السياسة الهشة، جعل منا سكاناً يميلون للتغيير بسرعة دون اهتمام بما يتغيير ويطمس حولنا من معالم جميلة.

 

نحتاج إلى مدن تتشارك فيها المجتمعات التي تقطنها، وأن يشعر الناس بأنهم بحاجة للهويات الأخرى من حولهم، ويرى كل منهم أنها هويات تستحق الحفاظ عليها لا مدن تصنع الغضب بين ساكينها

يجب حقاً ن نتساءل: إذا كان العمران وسيلة لاحترام الهوية والذات، وطريقاً للانقسامات والكراهية، فكيف نخلق أماكن ينتمي لها الناس؟ وهل يمكن أن ينتج من هذا مجتمع متقارب، ويتعايش أفراده بسلام رغم اختلافهم؟

 

لنا أن ندرك أن المعمار ليس ترتيباً للطوب وتنظيمه تنظيماً ذكياً، والمباني ليست منحوتات وظيفية أو معبرة فقط، بل إنها تظهر شخصياتنا وما يلمهنا كمجتمع ويعزز قيمنا، وهي الحافز الذي يمدنا بالانتماء لأوطاننا، ولغة التواصل في الطباع المختلفة لمجتمعنا.

 

إن النسيج الذي يشكل مدننا ينعكس على نسيج أرواحنا، وهنا تكمن أهمية إعادة البناء من خلال تصاميم ينبغي أن تعبر عن الحس المجتمعي، ويجب أن تكون مستواحاة من طبيعة بلادنا وعاداتنا؛ لتكون المباني قادرة على التمدد بشكل طبيعي، وعلينا أن نمتلك القدرة بخلق عمارة لا تساهم فقط في الجوانب العملية والاقتصادية من حياة الناس، وإنما في حاجاتهم الاجتماعية والنفسية والروحانية، ولنا في المدن الإسلامية القديمة خير مثال، بجمالها الذي يدعو للتفاخر، وبعمران يستمتع به الجميع وليس النخبة، وشواهدها الباقية تدل على التقارب في المجتمع والسلاسة بين فئاته والقيم الأخلاقية .

 

أخيراً نحتاج إلى مدن تتشارك فيها المجتمعات التي تقطنها، وأن يشعر الناس بأنهم بحاجة للهويات الأخرى من حولهم، ويرى كل منهم أنها هويات تستحق الحفاظ عليها والمساهمة فيها، لا مدن تصنع الغضب بين ساكينها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.