شعار قسم مدونات

في رثاء المشاعر!

blogs - حلب

بات لا مفر من رثاء المشاعر الإنسانية بعد أداء صلاة الجنازة عليها، ومواراتها ثرى الأجساد المطحونة بهموم الواقع ومآسيه، فسيل الصور والمشاهد الموغلة في الوحشية نجحت بوأد الأحاسيس التي فطر الإنسان عليها، طاوية بذلك صفحة الأمس القريب حين كان مشهد دهس قطة في الشارع يهز الوجدان ويعكر المزاج، فيما نرى اليوم أن مشاهد جز الرؤوس وحرق الأجساد حية وانتشال الأطفال من بين ركام البيوت المقصوفة غيلة وغدراً، تعجز عن هز مشاعر الإنسان المعاصر، فلغة القتل والتلذذ بعذابات البشر باتت تسود أكثر فأكثر، حتى ما عاد هناك مستنكر لأكل لحوم المسلمين في مينمار وأفريقيا الوسطى، نعم، تؤكل لحومهم بعد شيهم أحياء بنيران الحقد والسادية المفرطة. 
 

وفي ظل سطوة الخوف الذي ينتشر ويتمدد على حساب آمال الناس بغد أقل فقراً، وأقل ضعفاً، وأقل عجزاً، فقد تبخرت الأحلام بغد أفضل

لا ينبغي إغماض العين، ودفن الرأس في التراب، بل يجدر الإقرار بالحقيقة مهما كانت مرّة؛ ومن ذلك، أن المشاعر الإنسانية أصابها الواقع الملبد بالاستبداد في مقتل، لتنضم بذلك إلى قائمة طويلة من الضحايا المنسيين، فمن نجى من حمم الموت المنتشرة في كل مكان، أصابته مشاهد وصور الدماء والأشلاء، ومس مشاعره التبلد حتى فقد كثير من الناس الإحساس بالحياة، وما عاد لها طعم، ولا لأحداثها نكهة في ظل الروتين القاتل الذي ينهش أيامهم قبل أحلامهم.

وفي ظل سطوة الخوف الذي ينتشر ويتمدد على حساب آمال الناس بغد أقل فقراً، وأقل ضعفاً، وأقل عجزاً، لاحظوا، أقول، أقل فقراً وعجزاً وضعفاً، فقد تبخرت الأحلام بغد أفضل، غد أكثر فرحاً وبهجة وسعادة ورخاءً، وبات غاية المنى أن يسلم الإنسان المعاصر من أوجاع الحاضر التي تحيط به إحاطة الساعة بالمعصم، وتطبق على أنفاسه إطباق القبور على ساكنيها!

 

أي مشاعر إنسانية تبقت فيما يرزح مليونا إنسان في ظل حصار أفقدهم أدنى متطلبات الحياة، فلا كهرباء تسعفهم بنورها وتنقذهم من برودة الشتاء أو تنجيهم من حرارة الصيف، ولا حتى مستلزمات تحرك عجلة مصانعهم التي صدأت لطول توقفها، قاذفة بعمالها نحو رصيف البطالة الموجعة حتى ملت منهم قوارع الطرق، وانتشر أطفالهم ينهشهم فقر الدم لسوء التغذية، فالجوع الكافر، نعم كافر، فعن أي مستقبل نحدث هذا الجيل؟ 
                                                                             

أمام المشاهد التي تكسوها الدماء، وتزخر بها المعاناة والآلام، فما عاد هناك من هو في منأى عن سفك الدماء التي باتت تراق صباح مساء، دون أن يعرف المقتول فيما قتل، وحتى القاتل ما عادت دوافعه للقتل مفهومة أو معروفة.

إن زمن المشاعر الإنسانية المتفاعلة مع واقع الحياة فرحاً وحزناً وخوفاً وأملاً قد مضى، وباتت الحياة باردة إلى أبعد مدى، فمع توالي أخبار المجازر هنا وهناك، والمآسي من كل صوب وحدب، ما عاد الحزن ضيفًا عابرًا سرعان ما يرحل، وما عاد الشوق للفرح يرتوي، ومضى زمن هبة الشعوب نصرة ونجدة لأصحاب القضايا العادلة، فاليوم هي خامدة هامدة، إذ تذبح الأمة من الوريد للوريد فيما الصمت سيد الموقف، والخمول رائد الميدان، وشعار الحال: نفسي نفسي، فلا بواكي لحلب الشهباء، ولا منجد لمسلمي مينمار، ولا مغيث لأهل غزة، ولا ملتفت لمعاناة من طحنهم الفقر ونهش المرض أجسادهم على طول الوطن العربي وعرضه!

أمام هذا المشهد الذي تكسوه الدماء، وتزخر به المعاناة والآلام، فما عاد هناك من هو في منأى عن سفك الدماء التي باتت تراق صباح مساء، دون أن يعرف المقتول فيما قتل، وحتى القاتل ما عادت دوافعه للقتل مفهومة أو معروفة، ومع كل صباح تتسلل أشعة الشمس ناشرة الدفء، وباعثة الأمل بيوم جديد، لكن الواقع سرعان ما يبدد الآمال بتواتر الأخبار السيئة من هنا وهناك، حتى باتت نشرات الأخبار أكبر مسببات الاكتئاب، وحيال ذلك، فوسائل الإعلام مدعوة إلى تخصيص نشرات أخبار سعيدة تدعو للفرح، وإن كان الأمر يبدو عسيراً ويتطلب جهداً كبيراً للبحث واستقصاء هكذا أخبار، لكن الأمر يستحق وبث الأمل أولى وأجدى لإنعاش المشاعر الإنسانية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.