شعار قسم مدونات

الحديقة الضائعة (1)

blogs- سوريا

تدوينات، كما لو أني سأقول: لم نكن يومًا في البلاد، لقد كنّا دومًا مبعدين. مرويّات عن الصمت كحالة ما قبل ثوريّة، ومرويّات أقلّ أهميّة، أزمنة وأمكنة، ومواقف، وحالات صمت قهريّ أو انتقائي أو مرضيّ، تنفتح عليّ كمُقل بيضاء.

1)
والآن، ها نحن قادرين على الهمس في أذن الغياب، لا نزال أحياء، ولذلك نظّن من حقّنا أنْ نتكلم، وأنْ نحلم، أنْ نُبعث، ونعود. لا يزال الوطن نحسب معافى، ينتظرنا خلف غشاء هذا الليل، منغلقًا على نفسه كمثل تلك الزهور ممّا ينغلق قبيل الغروب. صباحنا باردٌ تدفئه الشمس، ونساؤنا يسجرن التنانير على الطرقات الجانبيّة، وصغارنا، الذين لم يقتلوا كما توهمّنا، كما أوهمتنا الحرب والمجزرة، يمرحون في الساحة، وخيولنا المجهدة تمضغ عشب الظلال، والأبطال ينصرفون إلى أعمال أقلّ أهميّة.

لم يصب أيّ شيء بسوء كما تقول الأخبار، الحمد لله، كلّ هذا وهمٌ، وهم مطلق، وهم كامل، وسنرى كيف يمكننا التمشي في وطننا الخصوصيّ وقت نشاء، نتعقب أخيلة في مساء الأزقّة لكلّ الذين كانوا معنا، ولا زالوا، نتجاهل سكون الأحياء المفرّغة، نقف على الزوايا ونحدق في المارّة، وفي اللاصوت، وأكثر، ننتخب موسميًّا من ينظّم لنا أعمال الذاكرة، واحتفالاتنا الوطنيّة. هذا وطنٌ كاملٌ، وطن حقيقيّ، وطن محسوس ومدرك.

هل يمكن القبول بأنّ الصمت هو صمت رضا عميق، أم عليك المجادلة بأنّه صمت إلزاميّ وصمت انتقائيّ وصمت مرضيّ ثانوي مرافق.

2)
تنظر إلى نفسك صامتًا جالسًا في غرفة بيتكم الأوّل، الوقت يسعى بعد السادسة صباحًا نحو ما ستصيرون إليه الآن، وأول صوت السيارات والنَّاس يغدو إلى رزقه، فيك نكهة حزن، لا تدري أممّا مضى أمّ ممّا هو آت، السنة من العقد الأول من هذه الألفية زائغة البداية، والفصل غادر الشتاء ولم يلج الربيع، تشرب شايك مع الخبز المنزليّ، وتخرج في سفرك إلى دمشق، تفتح باب الدار فيدخل ضوء الشمس مكانك، وتمشي لتنتظر لساعة مرور السيارة التي ستباري شط الفرات، كما لو أنها تنزلق عليه، حتى مدينة دير الزُّور، هذه فرصتك المعروفة لتتفكر في الحقيقة التالية آنذاك، لماذا لا شئ يستحق الاعتراض، أو بالأحرى، لماذا نتصرف ونتحدّث كما لو أنه لا شئ يستحق الاعتراض، عبر الصراخ العام، أو التوقف عن الحركة، الخروج من حالة الصمت، ومغادرة السكون أو الحركة الرتيبة.

منذ أيام تناقل الناس خبرًا عن إحدى قرى دير الزّور قررت "الدولة" هدم بيت فيها لمخالفته "للقوانين الناظمة"، لكن لجنة التنفيذ ووجهت باعتراض المالك وطردت، ولمّا تدخلت قوّة من "الدولة" تدخلت ضدّها قوّة من "القبيلة"، وتُحدّث عن إطلاق نار، ثمّ ما نشب "سيادة الرئيس" أن احتوى الحالة، حيث تدخل مبعوثون عند وجهاء المنطقة من "أعضاء مجلس الشعب" كما تدخل الوجهاء عند الدولة.

مثلت لك هذه الحالة بارقة أمل نظريّ، فمنذ وراثة بشار الأسد، مضطرب الضحكة طويل الرقبة صغير الوجه، لمنصب الرئاسة صرتم تسمعون عن أشياء لم تعهدوها في عقد التسعينات، في تلك الفترة، ورغم انك كنت لا تزال تلميذًا، استقر في ذهنك، ولا يزال يعتريك هذا الشعور، أنّها كانت فترة صمت وشلل تامّين، حيث لا يمكنك على الإطلاق تذكر أيّ كلام مهمّ ومفيد في العموميّ منها، اللهم إلا أحاديث مريبة عن عملية ثعلب الصحراء وعن كلام تداوله "العامّة" عن نيّة بل كلنتون قلب نظام صدام حسين، وأحاديث مخيفة قادمة من الثمانينات.

ففي نزهة عائليّة ليليّة إلى بادية الفرات، كما لو أنّ الكبار قالوا تعليقًا على الخبر، غدًا ستنقلب الشمس أو تشرق من هنا، أصابك رعبٌ خفيف خفي تسرّب في أوعيتك، ونظرت في السماء، النجوم تتقادح كالبارود، وشهب تمخر عباب الليل. نعم، في ظلّ الركود المقبريّ الي يعيشه الناس، يمكن لخيالهم أنْ يذهب مع أيّ خبر إلى تمنّي أن ينقلب هذا الشرق الأوسط الجاثم على مضغة قلوبهم، يمكنهم أنْ يبالغوا رغبويًّا في تقدير أي حركة، فهسيس الجندب قرع طبل في هدأة الليل. يمر هواء محمل برائحة التراب، هواء هو دمع بكاء ليل العراق، وتستنشقه حتى شبكة الدم في رئتيك وتحمله إلى اليوم تحت جلدك. هواء ذلك الليل المشحون بتراب البادية وبنباح الكلاب على مخاوفك، مخاوفكم.

أقول مثلت هذه الحادثة، اعتراضُ أحدهم على سلطة اللجنة، والدولة في كنهها مجموعة لجان، فرصةً لإعادة طرح السؤال الذي كان يؤرقك حقيقة، حيث خطرت لك يومها فكرة "ثوريّة تمامًا"، غير مدركة بوصفها كذلك وقتئذ، وقلت في نفسك، واه، هناك من يستطيع الاعتراض على "الدولة" علنًا وفعلًا، وإجبارها في هذه الحالة وفِي حالة أخرى مماثلة على إرسال مجموعة أمن وعساكر لضبط الامر وحفظ "النظام".

3)
في دير الزور، إمّا تنتظر سويعات، قبل أنْ تحجز رحلتك إلى دمشق، وإمّا تحجز في وقت يناسبك وتمّر حتى ساعة الإنطلاق لزيارة بعض الأقارب أو الصحبة، لا يمضي الأمر دومًا بسهولة، إلّا أنّه في المجمل ليس سيئًا، تقول. أنت تحافظ على هدوئك الاعتياديّ، وتنصرف في تبصّرك في اللايوميّ، وفي التشاغل.

بين عقدين، يمكنك أن تميّز أنماطًا مختلفة من الصمت، التالي لمجزرة، أو السابق لها، وهذا يبدو واضحًا تمامًا، ومدركًا على نحو باطنيّ في نطاقات بؤريّة غزيرة مبعثرة في المجتمعات السوريّة.

مؤخّرًا اقتنيت كتاب جيب ملوّن من طباعة أوكسفور عن الأمراض الباطنة والجراحيّة الشائعة، أعجبك المحتوى والعرض، كلّ شيء مبوّب بطريقة تسّهل الوصول السريع لمعلومات مقطوفة بعناية من ركام هائل من النصوص في الكتب المدرسيّة والمراجعات المنهجيّة، وقبل تداول كتب الأجهزة الذكيّة وتطبيقاتهما وبعده، وقع في خلدك أنّ هذا الكتيّب اختراق على المستوى الشخصيّ والعام بأكثر من معنى. مثّل هذا الكتاب وغيره ممّا صار متداولًا ما بعد انتهاء حياة حافظ، مثّل لك عالمًا موازيًا، وعالمًا جديدًا، وعلى مستوى الحقل وبالمقارنة، كسرًا لجمود رسميّ بليد، لا يزال، ليس فقط في صناعة الكتاب وطرق التربية والتعليم العالي وما قبله، بل حشو هذا كلّه بكمية كبيرة من الرثاثة والقدامة، أقول عن قصد، ويسبق ذلك مناورة مزدوجة من فرض الصمت أو قول النفاق.

يسعدك أنْ تبدأ الرحلة، في باصات بدأت تتجدد وتتحدّث على أيّ حال على نحو متسارع، وصارت مواعيد الرحلات أكثر راحة. في التسعينات كانت شركة عامّة واحدة للنقل البعيد هي الكرنك، وبضع شركات صغيرة. وكان على المرء حجز تذكرة قبل فترة كما لو أنّه سيسافر إلى عاصمة بلد آخر.
بادية، الطريق عبارة عن خط أزرق على لوحة من تراب يتخلله شوك وشيح، ولا يقاطعه إلّا مدينة تدمر بأشجار النخيل المبعثرة وأعمدة التاريخ. لكنّك كنت تجد في النظر، المبتعد عن الكتاب أكثر من الواقع على سطوره، في البادية متعة مرور اللاشيء على شريط الزمن، أفق بسيط، بادية وسماء يلتقيان وهذا كلّ ما في الأمر، وهذا كلّ ما يتوّفر للبصر من متعة الطريق، لولا ظلال قليلة تحاول رسم مشهد.

تفكر فعلًا، ما الذي لا يستّحق الاعتراض، وهل هذا حقيقيّ تمامًا، هل يمكن القبول بأنّ الصمت هو صمت رضا عميق، أم عليك المجادلة بأنّه صمت إلزاميّ وصمت انتقائيّ وصمت مرضيّ ثانوي مرافق.

بين عقدين، يمكنك أن تميّز أنماطًا مختلفة من الصمت، التالي لمجزرة، أو السابق لها، وهذا يبدو واضحًا تمامًا، ومدركًا على نحو باطنيّ في نطاقات بؤريّة غزيرة مبعثرة في المجتمعات السوريّة. لم تكن سوريا يومًا باحة للصمت من مشهد تاريخي حديث، ولا للسكون، وحتى لو كان غياب الصمت والسكون على حساب انقلابات وقلاقل، وعلى حساب نشاط سياسيّ وتغير اجتماعيّ مضطرب. وإنّما كانت فيما نتخيّله ويقال، ساحة للانقلابات والاضرابات والمظاهرات والنقاشات والخصومات والانشقاقات. الاعتراض كان هواية فيما يبدو لنا.

وبعد ما حدث من مجازر صغير وكبيرة في المرور الدامي من السبعينات إلى الثمانينات، تخللتها وتبعتها ملاحقات وتصفيات امتدّت في طورها الحاد حتى عام 1984م، أظن ذلك على سبيل التخمين التفضيليّ، إذ أنّه عام ولادتي، بعد ذلك أقول شاعت حالة رهيبة من الصمت والسكون، أشبه بحالة ذهول جاموديّ -حالة مرضيّة قد تمثل ترافقًا للاكتئاب وتتميز بمُدد من اللاحركة المطلقة والذهول أو ما تحت الذهول بدون أي دليل على غياب الوعيّ-، ويمكن عند الحديث عن الثمانينات، وعمّا يسمى الأحداث في التداول اليوميّ، كتمويه لطبيعة ما حدث والتحلل من اتخاذ أي موقف حياله، يمكن اعتبار هذا الصمت "خرسًا"، وكما لو أنّه جزء من تناذر ما بعد الصدمة العامة، وهو بهذا المعنى، أقرب إلى "خَرس تعذّر الحركة"، حيث يحتفظ المرء بقدرته على التحديق، مع بطاءة مفرطة، ولغة أحادية المقطع، وسحنة معتّلة وتثبط عام، رغم كون الوعيّ سليمًا وجاهزًا. ويمكن فهم أنّ هذا الداء كان جمعيًا.

الصمت أمان الخائف المطارد، وجوّ رعبه في الوقت ذاته. وهو ما يسبق الصوت أو ما يتلوه، لا صمت دون المقارنة مع صوت، ولا صمت دون إمكانيّة التصويت، ككلّ المتضادات.

أعي، وأفكر في رحلتي وأنا التفت إلى التسعينات، التي لم يفصلنا عن صمتها إلّا حلول الموت بحافظ الأسد، ويبدو هذا مفهومًا إلى حدّ ما إذا ما استحضرنا حالة الثمانينات، خرسها وصمتها. أعي أنّ صمت التسعينات كان حاضرًا بقوّة، وكان شائعًا، ولطن صعب تفهمّة نسبيًّا، أو تبريره، بالمقارنة مع سابقه. ما الذي يمكن أن يشكل حدًّا، أو معيار تحقيب، بين هذين؟ حقيقة هذا أمر بحثته كثيرًا، ولم أجد له جوابًا ذكيًّا، سوى أنّي أقول، طول المدّة، واستمرار عوامل مرضيّة مشابهة.

صمت التسعينات كان أقرب إلى حالة صمت "فقد الإرادة الاجتماعيّة" الشديد والواسع، وهو في المجال غير الخاص صمت يحتوي على قدر مرعب من النفاق العام، ومن التورية والتلغيز، حيث يمكن بسهولة إدراك وجود اعتراضات مضمرة لا تنتهي على راهن هو صنيعة ماض قريب، مخيف ومحزن. وأمّا في المجال الخاص والموثوق، فهو صمت انتقائيّ منتشر متفاهم عليه، كحالة خوف، أو كحالة إدراك لعدم جدوى ما دام هذا لن يكون له أي فرصة للتداول أو التعميم في أي نطاق مفتوح أو رسميّ أو مجتمعيّ. بصراحة يمكن التأكيد، على أنّه في التسعينات، وبالمقارنة مع العقد الألفينيّ الأوّل، أو مع النصف الأوّل من الثمانينات، قبل فرض الصمت الإلزاميّ العام، أو تعممه كحالة خرس وبكم؛ كان الصمت الانتقائيّ في المجال الخاص الموثوق أو الضيّق أشد وطأة، وبمقاييس عدّة.

بمعنى آخر تمامًا، وربّما ذي صلة لكن من جانب مختلف كليًّا، تحب الصمت، رغم كلّ ما تفكر به في رحلتك تلك، تعب الرقبة من وضعية الجلوس، عدم الرغبة في افتتاح حديث مع رفيق الرحلة، انعدام أرضيّة يومها للتفكير في إمكانيّة انتهاء حقبة، حتى ولو دون بداية أخرى، لا تصوّر إمكانيّة الحركة أو التحرّك، خمول الخيال، غياب ألم ذي معنى في جيلك، وغياب أي معنى لأيّ ألم كان، عري المكان من دلالات ذات قيمة تحفيزيّة. فتلتفت لذلك مثلًا إلى تكسر أشعة الشمس على حصباء الصحراء، الفرق في درجة الحرارة على جانبي بلّور النافذة، غفوة مفتعلة مستقطعة، صوت الفلم المكرر في الحافلة، عدم تفكيرك في افتقادك لهاتف ذكيّ، أو حتى مسجلة حديثة، حلم ليلة صيف، إهانة مضمرة تم تمريرها تغيظك الآن، ولماذا السفر.

فتفكّر يومها والآن، الصمت أمان الخائف المطارد، وجوّ رعبه في الوقت ذاته. وهو ما يسبق الصوت أو ما يتلوه، لا صمت دون المقارنة مع صوت، ولا صمت دون إمكانيّة التصويت، ككلّ المتضادات. وهو الوسط الذي يشغل حيّز ما بعد المجزرة، وما قبلها نسبيًّا. الصمت رُميّ الموت. وهو، أراه، إفلاس الحب أو ازدهاره. وقد يكون خيانة عامّة، وعندها لا نصف خرسًا أو بكمًا، بل أصوات كثيرة لا تنتج كلامًا، أو لا تنتج كلامًا مناسبًا، أو لا تقول الكلام الذي يجب أن يقال الآن. فنسمي ذلك صمتًا، كما تعلمون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.