شعار قسم مدونات

قتلوه كما لو كان "منبوذا"

blogs - انتحار

كان الظلام حالكا، والسماء ملبدة بالغيوم حينما سمعنا صرخة مدوية ونحن نمر بجانب البيت الكبير.. البيت الذي لا يصلح إلا لأهل الفن، والثراء، والحكم، والقضاء.. البيت الذي لا يصلح إلا لأصحاب النفوذ، والمال، والقوة.. البيت الذي لا يصلح إلا للسادة سكنا وجميع ماعداهم غرباء.. صرخة كتلك لم نعتد عليها من أصحاب البيت.. كل الذي اعتدنا سماعه صرخات فرح ومجون.. كان صرخة ألم.

كل نوافذ البيت كانت مضاءة إلا واحدة بنور خافت يتراقص من خلفها ظل شبح جامد كمصباح يتدلى من سقيفة.  خرج المنبوذون مثلي من جحورهم بملابسهم البالية، وأنوفهم المنكسرة، وخنوعهم الذي طغى على ملامحهم التي فقدت معالم الآدمية.. خرجوا يحملون على أكتافهم هموم الحياة، وتحت أرجلهم دفنوا أحلام البائسين منهم.. رويدا رويدا وبحذر اقتربوا من أسوار البيت الكبير يشاهدون، ويظنون ما حدث … صرخة كالتي سمعوها اعتادوا سماعها من جحورهم من بين أضلعهم. كانت ليلة مريبة مضت كليل الشتاء طويلة.. اهل البيت يعرفون ما يحدث داخل أسواره.. المنبوذون من حولي يترقبون ليعرفوا.. ليس لشيء سوى انهم سيجدوا ما يتكلمون فيه.. ما ينقضي به وقتهم الرخيص، ويشغلهم عن قسوة الحياة وظلم أصحاب البيت.

هل بلغت قسوتهم أن يضحوا بفرد منهم كي يستمروا؟؟ كيف ذلك ولماذا؟ إن حدث ذلك فينا نحن المنبوذين، وقتلوا منا واحدا فهذا أصبح عادة فينا كموت أحدنا في نومه. لكن منهم.. من بين اظهرهم.. هذا غريب.

انسلخ ظلام الليل من بين ايدينا وغمر دفء الشمس، البيت ونسي ما دونه، وبان كل شيء.. أحدهم مات منتحرا.. ليس منبوذا هذه المرة كما اعتدنا دوما. كان من ساكني البيت الكبير.. كيف يعقل هذا؟! لسنا ندري.. هذا ما حدث.. مات منتحرا بجرعة زائدة من الرفاهية ربما.. أو ربما مات منتحرا كما يدعي حارس البوابة الشرقية للبيت بعدما اكتشفوا أنه سرق حلي سيدة القصر.. كان المنبوذون هم أدرى الناس كيف مات.. لكنهم رغم ذلك كانوا يصدقون رواية رب البيت.. وكيف لرب البيت الكبير أن يكذب؟!

كان لي صديق مات منتحرا منذ زمن.. اختنق بهمومه، وانقطع به الأمل وحاول يوما في أحلامه أن يعتلي سور البيت الكبير ظنا منه أن البيت للجميع.. كان يعلم اسرارا كثيرة من داخل البيت لذلك لم يعش كالصامت في جسدي طويلا. كان يخبرني دوما أن للبيت فلسفة كفلسفة الغابة يموت الصغير حتى يعيش الكبير.. يموت أحد الساكنين فيه حتى يعيش البقية. يموت بماذا وكيف؟ ليس مهما.. المهم أن يموت أما عن المنبوذين فإن لم تمت ليس معناه أن تحيا وإن حييت ليس يعني أن تعيش.. المهم أن تظل كمنبوذ صامتا بعيدا عن ملامسة السور.

 

أحقا ما قاله صديقي لي؟! هل بلغت قسوتهم أن يضحوا بفرد منهم كي يستمروا؟؟ كيف ذلك ولماذا؟ إن حدث ذلك فينا نحن المنبوذين، وقتلوا منا واحدا او أعدموه بحبل من حديد أو حرير فهذا أصبح عادة فينا كموت أحدنا في نومه.. اعدتنا قتلهم ودهسهم، ومداهماتهم، وظلمهم البين، وما زلنا صامتين، وأيامنا تمضي. لكن منهم.. من بين اظهرهم.. هذا غريب. لكن صديقي يهاتفني دوما ليقضي على حيرتي.. رب البيت يقتل أهله كي يعيش.. فرعون يحكم البيت الكبير.. فرعون يغرق جنده كي ينجو.. فرعون يقتل هامان سرا ويبني له تمثالا.. فرعون نموت كي يحيا، ولا زال يحكم البيت الكبير. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.