شعار قسم مدونات

الاسفنج مَثْنى.. مَثْنى!

blogs - student

منذ أن جلست على مقاعد الدراسة أول مرة، تعلمت أنه ليس علي أن أكون أكثر من اسفنجة، تردُّ إلى المعلم ما كان يحشوني به حين يعصرني عصرا بأسئلة الامتحان.
 

لم أكن أفهم لم علي أن أعيد كتابة الدروس في دفتري وهي موجودة سلفا في الكتاب المدرسي، أو لم علي أن أحفظ قصائد شعرية ركيكة، وأستظهرها وأنا أضم يدي بإحكام أمام السبورة! أتذكر أنني كنت أحفظ هذه القصائد في البيت عن طريق تلحينها، إلا أن المعلمين في كل فصل كانوا يرفضون أن أنشد القصائد ويكتفون بقراءة شعرية مبتذلة!
 

كل ما تعلمته في المدرسة فيه نفحة من الخنوع والخضوع، فنحن نطأطئ رؤوسنا حين نسمع الزعيق " الكل مَثْنَى.. مَثْنَى" ونمر بخشوع أمام ناظري المدير.

أتذكر أيضا أن المدرس كلما وجدني أثرثر كان يعاقبني بكتابة "لن أتحدث داخل الفصل" خمسين مرة، لم أجد لحد الساعة غرضه من تلك العقوبة، لأنني لم أتوقف يوما عن الحديث داخل القسم.
 

كثير من الأمور لم أكن أفهمها، فزميلتي التي تجلس بجانبي كانت تتلقى معاملة خاصة، كل الأساتذة يهشون لها ولا ينزعجون إن نسيت دفترا أو قلما، وذاك الذي يجلس في الطاولة الأمامية جعلتني المدرسة أبادله مقعدي، وهو في كل حصة يحتكر فضاء الإجابة والمشاركة في الدرس.

كنت مستاءة جدا لأنني أرفع أصبعي لدقائق عديدة دون أن تراني المعلمة، لقصر قامتي أو ربما لأنها كانت تتجاهلني عمدا فقد أدركت فيما بعد أن والد ندى كان محاميا يخشاه الجميع، وأن والد محمد كان شرطيا يأتي ببزته الرسمية إلى إدارة المدرسة.
 

كان اليوم الأول من الدخول المدرسي الأسوأ على الإطلاق، فالناظر إلى الطريق المؤدية للمدرسة يخيل إليه أن الأطفال يبدون بمحافظهم الثقيلة كالبغال المحملة بالحطب تتمايل يمنة ويسرة في إيقاع بطيء، كنت أكره حمل المحفظة الثقيلة، وكثيرا ما كنت أتناسى بعض الكتب أو الدفاتر ليخف عني الحمل.
 

أذكر ذات يوم أنني نسيت حقيبتي المدرسية في البيت، ولم أنتبه إلا حين توقفنا أمام باب المدرسة، التفت يمنة ويسرة داخل السيارة، لم أجدها فأُسقط في يدي. كان الموقف محرجا جدا، لم أكن أعلم ما سيقوله المعلم أو باقي التلاميذ عني، بقيت نصف ساعة واقفة أمام باب القسم ،أقدم رجلا وأؤخر الأخرى، طرقت الباب ولحسن حظي أن والدي كلم المدير فلم ينطق المعلم بكلمة وإن بقي التلاميذ يتندرون ويتغامزون..
 

كانت تلك أول مرة أحس فيها بالحرية داخل المدرسة، كم كان منظر الطاولة أمامي رائعا وهي جدباء إلا من ورقة يتيمة مزقتها إحدى الصديقات من يوم السبت في كتاب النصوص. تمنيت في تلك اللحظة لو أنني أستطيع نسيان محفظتي دائما، لكن الحلم لم يدم طويلا..
 

لم أكن أتلقى الضربات بسبب أخطاء في جدول الضرب أو في الصرف والتحويل، لكنني كنت أضرب لأنني لا أتقن الصمت.

لطالما لمت والديّ لأنهما لا يذهبان إلى الإدارة ولا يوبخان المعلم ويحذرانه من الصراخ في وجهي، فكل ما كانا يفعلانه هو أن يجلسا مع الإدارة والمعلمين كل شهرين يتفقدان فيها مساري ويثنيان فيها على عمل الأساتذة ويتبادلان معهم أرقام الهواتف..
 

تعلمت أن القسم مكان مقدس مثل المسجد، نتحدث فيه بصوت خافت، ويستحسن ألا ننبس ببنت شفة إلا إذا أذن لنا المدرس بذلك.
 

تعلمت أن المدرس مقدس أيضا، أليس هو من كاد أن يكون رسولا.. حيرني ذاك البيت الشعري في صغري "قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا" لطالما كنت أظن أن الرسالة نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كان التنافس بينه وبين الأستاذ شديدا، غير أنني احتفظت لنفسي بهذه الأفكار، إذ كنت على علم مسبقا بأن الجميع سينصحني بنسيان هذه الأفكار الغريبة.
 

كثيرة هي الأسئلة التي كانت تدور بذهني، عدة أسئلة داخلي كانت ترهبها عصا المعلم الممدودة، لم أكن أتلقى الضربات بسبب أخطاء في جدول الضرب أو في الصرف والتحويل، لكنني كنت أضرب لأنني لا أتقن الصمت. أتذكر أن المعلم كان لا يحب أن يسمع في القسم سوى صوت كعب حذائه حين يرتطم بالأرض وهو يقطع القسم جيئة وذهابا أو حين يقرع رجليه ليستدير عند الزاوية.
 

كل ما تعلمته في المدرسة فيه نفحة من الخنوع والخضوع، فنحن نطأطئ رؤوسنا حين نسمع الزعيق " الكل مَثْنَى.. مَثْنَى" ونمر بخشوع أمام ناظري المدير، ولا نحدق مباشرة في الأستاذ، نتلكأ وينتظر كل منا مبادرة الآخرين إذا وجدنا خطأ في السبورة، ونفكر ألف مرة قبل أن نسأل الأستاذ.. نزمُّ شفاهنا ونبلع ألسنتنا في حضرة عصا المعلم.
 

يذرّون الرماد في عيوننا، يوهموننا بأننا جيل التغيير، وأننا المُعوَّلُ علينا في مسيرة النهضة، يركزون في دروس التربية في المواطنة على حقوقنا الكثيرة، ولعل أكثر عبارة كنا نرددها في حصص تلك المادة "من حقي أن أعبر كيفما أريد". وفي نهاية كل سنة دراسية يسألوننا أن نستظهر ما حفظناه، فلا نتذكر سوى عبارة واحدة تليق بالمناسبة، ونردد بابتسامة غبية واسعة "من علمني حرفا صرت له عبدا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.