شعار قسم مدونات

طارق المصري.. قبل أن تبلغ السبعين.

blogs-الغربة

طارق.. شاب في ربيع عقده الثالث مترقباً بخوف يشوبه بعض الأمل لبضعِ شهور تفصلهُ عن كابوس استمر معه منذ ادراكه لواقع التعليم بمصر فهو يرى في تخرجه المرتقب تحررا من سجن التعليم والانطلاق نحو ممارسة حياته المهنية. وحيد هو ولحسن حظه لن يُجند اجباريا لكنه سيضطر بعد الانتهاء من دراسته بكلية الصيدلة للانتظار عام أيضا حتى يحصل على شهادة مزاولة المهنة أو يعمل بإحدى الصيدليات الخاصة كي يتحصل على شهادة خبرة تمكنه من السفر الى إحدى دول الخليج العربي الشقيق ليعمل بإحدى الصيدليات هناك.

وأصبح حلم السفر أو الهروب من بلده يتملكه تماما حيث لا فرصة لديه هنا بمصر إذ لا يمتلك رأس المال اللازم لفتح صيدلية خاصة كما أنه لا يمتلك جرأة على دخول هذا المجال الذي أصبح مهددا بشكل كبير كغيره من مجالات الحياة ببلده الحبيب مصر. حسنا بعد أن قضى ربع قرن من عمره في مجال التعليم الحكومي ويتبعه مرحلة الجامعة فهو لا يزال مترددا حول حقيقة رغبته في مواصلة حياته المهنية في مجال الصيدلة. 

لأكثر من عشرين عاماً وهو لا يدري حقا هل أراد أن يصبح صيدلي أم أراد شيئا آخر وإذا كان هناك شيء آخر بالفعل فما هو؟! دعنا من حوارات رأسه التي لا تجدى فهو متورط بالفعل في مسار الحياة التي رُسمت له والتي لم يشارك في رسم أي معلم من معالمها كما أنه لم يتدخل بشيء في تحديد مسار ربع قرنه المنقضى.

ها هو يحصل على شهادة الخبرة ويتقدم بالسفر لدولة الكويت حيث فرق العملة المغرى ولكن لا سبيل لتحمل نفقات الفيزا كما أنه لا سبيل أبدا لتحمل أعباء معادلة شهادتيه الإعدادية والثانوية بشهادات كويتية فهو على وشك إدراك حقيقة خروج جامعات بلده من أي تصنيف دولي وبناء عليه سيؤجل سفره للكويت إلى حين.

أتراه هذا الـ طارق المعزول بهمومه عن كل البشر يفكر فيما يدور حوله من مشاكل سواء كانت عربية أو دولية أو حتى على مستوى مهنته.. أتراه؟ أنا لا أراه إلا مستغرقا في همومه غارقا في أحلامه.

فأمامه طريق طويل من المعادلات والكورسات والتدريبات.. أو طريق مختصر لجنى المال وهو السفر إلى بلد الريال. إذاً سيشد رحاله نحو الممكلة العربية السعودية الشقيقة ليعمل بإحدى الصيدليات الخاصة إلى أن يشاء الله أما باستمرار في العمل حتى يكوّن مبلغا محترما "خميرة" يمكنه من العودة مؤقتا لمصر ليخطب بنت الحلال ويعود ليكمل مسيرته في هذا الماراثون الذي لن ينتهي.. سيكون مبلغ للسكن ثم الزواج ثم سلسلة لن تنتهي.. أو الترحيل الذي يتهدد الجميع من جميع بقاع العالم حيث لم يعد هناك مكان يتسع لمصري أيا كان.. فكونك من مصر فبلدك أولى بك.

تمكث زوجته بمصر لتربى ابنتهما ريماس -سنتحدث عنها لاحقا- بينما هو بالسعودية يعيش كما كان سابقا أعزب ليستطيع توفير نفقات بيته الذي لا يمكث فيه سوى أسبوعين على الأكثر في العام..  يجلس وحيدا بعد أن أنهى شفته النايت ليرتشف فنجان قهوة أعدّه هو بنفسه ليحادث هدى وريماس على السكايب.. جميلة ريماس وتعيسة حيث أن اسمها لا يُعرف له معنى في الحقيقة فقد اقترحت الاسم أخت زوجته مريم المتزوجة بالكويت لمهندس بترول والتي نجحت في اقناع هدى زوجته بأن ريماس هذا يعنى شيئا كبيرا ذو معنى عميق وقتها وهو لا يذكر ذلك المعنى فقد أراد تسميتها رغد أو أسماء أو أي اسم مما يعرفه أذا ما انعدمت الاسماء لا قدر الله..

ولكن تعاسة ريماس الحقيقية ليس في اسمها وإنما بدون شك في انقطاع أبيها عنها.. يفكر طارق ويضطرب فماذا لو انعدمت علاقته بابنته حينما تكبر؟ هل سيظل يعمل هكذا للأبد! بالطبع هذا لا يمكن، فهذا الاحتمال غير وارد أبدا في رسمه للمستقبل ولكن رسمة المستقبل الخاصة به مستحيلة الحدوث أيضا.. فهو مهدد بالترحيل إذا ما نشبت خلافات بين البلدين الشقيقين وبانعدام القيمة لعملة بلده فمهما جمع من اموال فما قيمتها حيث لا تؤمن له أي شيء إذا قرر العودة لمصر؟ إذا يبدو أنه لا سبيل للنجاة.

يرتشف من فنجان قهوته أخر رشفة ثم يفكر في هدى زوجه التي لا يراها سوى أيام في السنة.. يراها يوميا على تطبيقات التواصل من خلال الانترنت، مظلوم هو وظالم لها أيضا فهو بين خيارين كلاهما مميت، إما الاستمرار هكذا والموت كمدا من أفكار رأسه التي تراوده أو العودة والموت فقراً من جحيم ينتظره في بلده..  أتراه هذا الطارق المعزول بهمومه عن كل البشر يفكر فيما يدور حوله من مشاكل سواء كانت عربية أو دولية أو حتى على مستوى مهنته.. أتراه؟

أنا لا أراه إلا مستغرقا في همومه غارقا في أحلامه ألّا ينتهي به الحال ويرى نفسه بعد بضع سنوات عائدا في زيارة سريعة ليحضر حفل زفاف ابن عمه البشمهندس معاذ الذي يعمل بدولة قطر الشقيقة، وتكبر ريماس وتدخل كلية الصيدلة كما أراد هو لها وتنتظر ريماس شهور قليلة تفصلها بين التعليم الحكومي وانطلاقها في سوق العمل.. ولا حياة لمن تنادى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.