شعار قسم مدونات

سوء الأحوال الاجتماعية

blogs - صداقة
دائماً ما نعزو سوء أحوالنا النفسية والاجتماعية إلى كل الأسباب المهمة وغير المهمة، ما عدا أن نضع احتمالَ أن تكون سوء الصحبة هي أحد تلك الأسباب، لنا قدرة رهيبة على انتقاد سياسات الحكومات ولا نقدر على انتقاد سياستنا البسيطة في اختيار الصداقات اللطيفة، بهذه البساطة؟ نعم بهذه البساطة.. ناهيك عن قدرة البعض على خلق المشاكل العائلية لأتفه الأسباب، بينما له باعٌ طويل في الحفاظ على صديق غير مفيد، وراء هذا التقليد الوضيع تفسير واحد وهو أن نصائحك وانتقاداتك للناس لا تستطيع أن تلتزم بها لنفسك، يا للبؤس..

 

الكثير منا يحتفل بذكرى صداقاته سنوياً، وكأن بعض هذه الصداقات أفْضت لما قدمت في الماضي، عربون الصداقة ليس بالاحتفالات، ربما يكون بشهامة المواقف، وربما يكون بالالتزام، بكل الأحوال لا أستسيغ فكرة تحويل الصداقات إلى مهرجان هدايا والتركيز على العطاء والأخذ الحسّي، يكفي أن تكون الصًّحبة بأخلاق الصحابة، أما إن كانت دون هذا المستوى فكما قال عمر الخيام، عاشر الناس على ريبةٍ منهم ولا تكثر الأصدقاء.

 

السبب الرئيس الذي جعل بعض علاقاتنا مع الناس أزمة حقيقية، هو فشلنا في إنهائها عندما تسنح الفرصة لذلك، وللآسف بعض الأحيان نقرر إنهاء بعض علاقاتنا، فيكون الضحية أبرياء بينما يرتع فقراء الآراء والهمم في جدول مواعيدنا.

لا أظن أن هناك مرحلة تزاحم مرحلة الجامعة على وفرة علاقات الشخص بها وفقاً للظروف الجامعية، كما لا أظن أن هناك مرحلة تزاحم هذه الحقبة في احتمال تكبد الإنسان لمشقة سوء العلاقات وفقاً لانعدام الوعي لدى معظم الشارع الطلابي – وإن كانوا من طلبة كليات رفيعة المستوى -، الأمر مخيف حينما يكون لديك كمية هائلة من الأصدقاء، هو تحدي لإرضاء الجميع في كل الأوقات، وهذا ما يجعل هذا الأمر غير مجدي، في الحقيقة، لقد فشل من تفاخر بكثرة العلاقات، وفشل كذلك من تبنّى الانعزال، كلاهما وقع إما بتفريط أو بإفراط. هذا لا يعني بأن ما دون ذلك منزه عن الوقوع في مشكلة العلاقات، لا تدري ربما يكون لك خليلٌ واحد فتقع في حبه… فتقع أنت في ألف مشكلة!

 

السبب الرئيس الذي جعل بعض علاقاتنا مع الناس أزمة حقيقية، هو فشلنا في إنهائها عندما تسنح الفرصة لذلك، وللآسف بعض الأحيان نقرر إنهاء بعض علاقاتنا، فيكون الضحية أبرياء بينما يرتع فقراء الآراء والهمم في جدول مواعيدنا سواء شعرنا بذلك أو لم نشعر، نتحول إلى عديمي فائدة في كل مرة نفشل بإنهاء صداقة ضارة، ببساطة لأننا نصير أكبر المجاملين على حساب صحتنا، شئنا أم أبينا فإننا نملك أزمة صداقات رهيبة، مساوؤها تتمدد في ظل غياب ما يكفلها، وشأن صداقةٍ سيئة، شأنها شأن أغنية هابطة وشأنها شأن أزمة تصحرٍ وشأنها شأن قنبلة نووية..

 

يقول على الوردي: «التناقض الاجتماعي كامن في أعماق الشاب العربي، فهو يقلد الشاب الغربي في أفانين الغرام، ولكنه في الزواج يريد تقليد أبيه وأعمامه وأخواله، إنه في غرامياته دونجوان وفي زواجه حاج عليوي». وكون الزواج علاقة صداقة لا أقل فحالها اجتماعياً كحال علاقات العمل، الدراسة، الطفولة، القرابة. كلها تخضع إلى تكاليف الصحبة وضرائبها وألمها ومصالحها، لست بروفوسور اجتماعي إلا أنني أظن أن المعيار الأفضل أن تكون التكاليف منخفضة مع المحافظة على المصالح مهما كبرت أو صغرت، وأشد ألم الصداقة هو أن ترى صديقك يتألم ولا تقدر على مداواته، وألم ثانٍ وهو أن تكون صديق لشخص أحببته في الماضي، أما الضرائب فهي تنازلات الصداقة.. أقوى تنازل هو أن تتنازل عن صداقة..

 

ما يجعلنا نركز على العلاقات السيئة هي بأن أطرافها لا يمارسون شيء، ذاك الشيء الذي نستنبط منه حكمة تلك الصداقات، في الحقيقة إن من الخطأ الفادح أن نقول بأنهم لا يمارسون شيء، بل إنهم يمارسون اللاشيء بنشاط رهيب جداً، العوامل المشتركة بين أصدقاء سيئون أكثر وهناً مما نظن، ومثل هذه العلاقات لتقبع في الدرك الأسفل من الهرم الاجتماعي، ما يجعل العلاقات غير المفيدة تدوم هي إصرارها على تكرار الخطأ دون أن ينتبه أحد، الأطراف فيها على نفس مستوى التفكير ونفس درجة الحماس، لذا فهي تستمر مع هوانها لأن أي تغيير في عوامل قيامها سيودي بحياة العلاقة بأكملها.

 

مهما كثرت علاقاتك وصداقاتك، إياك والتهكم على مقومات تلك المعارف، النية الحسنة والاحترام والوعي هم الركائز التي تحفظ هيموجلوبين الصداقة.

البعض يتساءل حتى اليوم لماذا فشلت الثورات العربية، الجواب بسيط وهو بأن مفهوم الثورة شامل لكل شيء، يبدأ من أصغر الأمور، عندما تفشل في بناء صداقة لطيفة ذو فائدة، فمن البديهي أن تفشل في صنع أمور أكثر حسماً، المصيبة أن هناك ملايين من البشر في أوطاننا تحمِل وزر عنفوانها المفعم بالغباء لمزاجيتها المقيتة، الناس تقتل تعليمها بالرفاهية، وتقتل احترامها للعلاقات بالمحافظة على سقف مصالحها الخاصة، في بلادنا الملايين تعاني مثل هذه المشكلات الاجتماعية ولا تحرّك ساكناً، المصيبة أن هذه الملايين هي التي لا ينبغي أن تذعن، وفق ما تحمله من درجات تفوق علمية ووفق الأمل الذي وضعناه على كاهلها منذ رحيل العنقاء وانصراف الصحابة.

 

ومهما كثرت علاقاتك وصداقاتك، إياك والتهكم على مقومات تلك المعارف، النية الحسنة والاحترام والوعي هم الركائز التي تحفظ هيموجلوبين الصداقة، إن التحدي الذي يتعين عليك تحقيقه في العام الجديد هو التحصيل والإنتاجية الاجتماعية، هذا مبني على من هم أصدقاؤكَ ومن هنّ صديقاتك، ثم تمنى للثورة الوطنية أن تنجح. ارفع السماعة وجدد صحبتك الصالحة، اشحنوا بطاريات علاقاتكم بقتل التهكمِ وتبني النقد البناء، أعلى مراتب الانتقاد هو أن تنتقد صديق حميم، وأعلى درجات التهكم الخذلان، يقول شاعرنا النبطي: يجرح الخاطر الخذلانْ جرحٍ عميقْ، أيْ خذلان يجرحني بغض النظر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.