شعار قسم مدونات

أَنا المُثَقَّفُ اليَهوديُّ الأخير

blogs-jew

لَيْسَ مِن قبيلِ المُصادفةِ أن يدعو إدوارد سعيد نفسَه بقولِه: "أنا المُثَقَّفُ اليهوديُّ الأخير"، في حواره مع صَحيفة "هآرتس" الإسرائيليّة، والذي أجراه معه "آري شافيط" 18/أغسطس/2000، فَمَنِ المُثَقَّفُ اليهوديُّ الذي عناه سعيد في قولِه، وَبِمَ ينْمازُ عن غيرِه من المُثَقَّفينَ حتّى يُعْلَنَ أنّه وريثُهم الأخير، خاصّة عند إيجادِنا تأثره بكبارِ المثقفين اليهود كـ(جاك دريدا، ونعوم تشومسكي، وتيودور أدورنو)، وكيْفَ يمكِنُنا الإفادةُ مِن مَوروثِهم النَّقديِّ، واستراتيجيّاتِ تعاملِهم مع المَوْروثِ في سبيلِ إصلاحِ حالِنا العربيِّ الرّاهنة؟، أسئلةٌ تحاوِلُ المدوّنة هذه الإجابة عنها، إن شاء الله.
 

يَكْتبُ النّاقدُ الأمريكيّ جورج شتاينر قائلًا: إنّه دونَ الإسهامِ اليهوديّ في الثّقافةِ الغَربيّة ما بين 1830 – 1930م ستكون الثقافةُ الغربيّة مختلفةً ومتضائلةَ القيمةِ بشكلٍ واضح. وشتايْنر مُحِقٌّ في ذلك حال إيجادِنا كبارَ المفكرين والفَلاسفة الغربيّين ذوي الأصل اليَهودي كـ(فرويد، وأدورنو، وهارولد بلوم، وسبينوزا، وجفري هارتمان، وكافكا، ووالتر بنجامين، وساكفان بيركفوتش، ونعوم تشومسكي، ختامًا بمُقَوِّضِ الفلسفةِ الغربيّة ورائد التفكيكيّة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا).

 

يعزو شتاينر سبب تجانس النُّقّاد اليهود إلى غَير عامل، أَظْهَرُها، وأهمُّها، دخول اليهود في ثقافة أوروبا الحديثة بوصفهم غرباء على تلكم الثقافة، ما خلّصهم من عائق التبجيل لها

والنقّادُ اليهودُ على اختلاف تَوجُّهاتِهم وتنوُّعِ حقولِ بَحثِهم – ما بين لُغَويّات كنعوم تشومسكي، وعلم نفس كسيچموند فرويد، وهارولد بلوم، وفلسفة ما بعد البنيوية كجاك دريدا إلى غير ذلكم من تلكم الحقول البحثية -على قَدر تجانسِهم، ما جَعل النقدَ الحديثَ يُطلِقُ على مجموع الإسهام اليهوديّ في تشكيل النقد الغربيّ بـ "النقد اليهودي".
 

يعزو شتاينر سبب تجانس النُّقّاد اليهود إلى غَير عامل، أَظْهَرُها، وأهمُّها، دخول اليهود في ثقافة أوروبا الحديثة بوصفهم غرباء على تلكم الثقافة، ما خلّصهم من عائق التبجيل لها، فالناقد اليهودي ينظر إلى نفسه بوصفِه غيْرَ مُنْتمٍ تمامًا إلى ثقافة يهيمن عليها الموروث الكلاسيكي /المسيحي، الأمر الذي يوفِّر له حرية في التفكير والإبداع، فهو وإن كان منتميًا إليها بوصْفِه غَرْبيًّا، غَيْرَ أنّه سرعان ما يتحلّلُ منْها عند البحث، والدّراسة، ما يجعلُه يُطلِعُ النظَرَ على ذاتِه وهو خارجها.
 

وترى الباحثة الأمريكية سوزان هاندلمان في كتابِها: (قتلة موسى: انبثاق التفسير الحاخامي في النظريّة الأدبيّة الحديثة) أن الناقد اليهودي لدى تفسيرِه النّصوصَ يقف مَوْقِفًا متعاليًا على النص الذي يفسِّره، حتى وإنْ كان نصًا مُقَدَّسًا، كما ترى أنَّ قَتْلَ موسى سِمة واضحة لدى فرويد وبلوم ودريدا، ويعني ذلك محاولةَ التخلُّص من الأصلِ اليهوديّ بقَتْلِ الأب على الطريقة الأوديبيّة التي نَظَّر لها فرويد، الأمر الذي يجعلهم يتخلصون من فعْلِ التَّبجيل، ويمنحهم فرصة النّقد من الخارج، بذا تتوفّر لهم رؤية أسبر غَوْرًا مِن لو كانوا في دراساتهم منتمين لثقافتهم اليهودية والغربيّة على السواء.
 

وفي مقالِه: (التمنع، والتعجب، والتعرّف) يقدِّم إدوارد سعيد رؤية لإنتاج المعرفة في العالم العربيّ، رؤية أَجِدُها في بعض أقانيمِها تَتَّسِقُ تمامًا والعامل السابق الذي انمازَ به الفكر اليهوديّ، حيث يرى أنَّ من معاني معرفة الذات فِعْلَ التعرّف من جديد إلى ما كان معروفًا من قبل، لكنّه تعرف بطريقة جديدة يُحدث بالضرورة الصدمة النفسيّة التي يُحْدِثُها الاكتشاف، هذه الصدمة لا تَتِمُّ إلا من خلال التحلل من الموروث الكلاسيكي عند البحث والدّراسة.
 

يتعيّن من المثقّفِ – وَفْق رؤية إدوارد سعيد السابقة – التحلّل من الانتماء إلى مَوْروثه عند البحث والدراسة، والخروج من نطاقِ دائرته وهيمنتِها كَي يَرى بشكلٍ أوضح، حيثُ يَرى ما لا يُرى

بعدَ تقديمِنا رؤية كل مِن جورج شتاينر، وسوزان فاندلمان، وإدوارد سعيد أجِدُ أنَّ مِن الأهميّة في الصدد هذا أن نشيرَ إلى مسألة (اللّامنتمي)، فَمَن (اللّامنتمي)؟، وماذا يتعيّن مِنْه؟، وما بُغيةُ اللاانتماء؟. في كتابِه المثقف والسلطة/ صُوَر المُثَقّف يُعَرِّف إدوارد سعيد المثقف بكلماتِ محوريّةٍ ثلاثٍ: لامُنْتَمٍ، هاوٍ، هامشيٌّ.
 

يكمنُ جوهر اللاانتماء في توليدِ شعورِ المثقَّف بالنَّفيِ والاغتراب، فالمثقف المغترِب الذي يدفعه إحساس المنفى كما يقول: لا يستجيبُ إلى مَنطِق ما هو تقليديّ عُرْفيّ، بل إلى شجاعة التجاسر، وإلى تمثيلِ التّغيير، والتقدم إلى الأمام لا الثّبات دون حركة.

يتعيّن من المثقّفِ – وَفْق رؤية إدوارد سعيد السابقة – التحلّل من الانتماء إلى مَوْروثه عند البحث والدراسة، والخروج من نطاقِ دائرته وهيمنتِها كَي يَرى بشكلٍ أوضح، حيثُ يَرى ما لا يُرى، فما تَستوي عَيْنٌ مدفوعةٌ بإسقاطات مُسبقة، ومتورِّطة بهيمنة مؤسسات السّلطة عليها، أقول: لا تستوي تلك العينُ بِعَيْنٍ متحللة من الانتماءِ، ومن الصورِ التقليديّة والنمطيّة المُسبقة، فإن كانتِ الأولى تفترضُ بنتائجها إملاءَ تصوّرات مسبقة، فحرِيٌّ بالثانية أن تحدثَ صدمةَ الاكتشافِ التي أشار إليها إدوارد سعيد، والمُتَأتِّية من رؤيةِ الذات من خارجِها.
 

تُشَكِّلُ مسألةُ التّعاملِ الفكريِّ مع المَوْروثِ الحضاريِّ لأيَّةِ حضارةٍ كانت منعطَفًا جَوْهريًّا يُفضي بأصحابِ تلكم الحضارة إلى أحد المَسْلَكيْنِ اللذين لا ثالثَ لهما: التَّقدّم والرُّقي أو التأخُّر والتّراجع، فما أشبه الحضارة الإنسانية بالنهر الذي يحدد له مُنْتَموه التدفُّقَ والجريان، أو التوقُّفَ والرُّكود.
 

يتحدد جريان حضارتنا العربية بفعل التعرف إلى ما كان معروفًا من قبل كما أشار إدوارد سعيد إلى ذلك، وعليْنا بالضرورة أن نشير إلى مسألة بالغة الأهمية في الصدد هذا: لا تطلّب مسألة التعرف إلى الموروث الكلاسيكي من الباحث التشكيك بذلكم الموروث بُغْيَة نبذِه لإحلال ما هو جديد محلّه كما يفعل أصحاب المُتَحوِّل، كما لا تطلب في الوقت ذاتِه تقديس الموروث الكلاسيكيّ (ليسَ بالإمْكانِ أبْدعُ ممّا كان) كما يفعل أصحاب الثابت، بل بُغْية ما يُرادُ إعادةُ قراءة الموروث العربيّ واستخراج دُرَرِه بأدوات بحثية تُفيدُ مُنْتَميه في القرن الواحد والعشرين.
 

إنَّ حضارتنا العربيّة لَرحبةٌ في أقانيمِها كافةً، فما الحضارةُ إلّا وعاء يَمْتَحُ من مختلفِ المَشارِبِ، وما عَراقةُ حضارتِنا العربيّة إلا لمشاركةِ الزّاهد والماجِنِ والصّوفيّ والسنّيّ والشّيعيّ والمُعتزليّ والزِّنديق والشاعر والكاتِب والفقيه والفيلسوف والطّبيب والقاضي والمُتَسوِّل والمُكْدِي في صُنعِها، فإنّنا لا نرى جمالَ تلكم القطعة الفُسَيْفِسائِيّة إلّا بِتَقديرِنا واحترامِنا تلكم المشارِب كافّةً، فَعَدَمُ احْتِفاء أَحَدِنا بأحدِها لا يُجيزُ له إقصاءَه أو التّنكُّر له من بين دائرةِ ذلكم المَوْروث السّامي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.