شعار قسم مدونات

في معنَى أن تكون مُكتئبًا

blogs- الاكتئاب

على الرغم من تناقض هذا المُجتمع الذي يُشجِّع أبناءه وربما يُجبر المتفوقين منهم على دخول كُليَّات الطبِّ، فيما يُحقِّر التخصصات الأدبيَّة، ومن جهة أخرى، يؤمن بالحسد والعَينِ والسِّحر والشعوذة حدَّ الهوس، ويرتاد مراكز المُنجِّمين واثقًا في قُدراتهم "الخارقة للعادة" رغم عدم وجود أي ضمانات سوى تصديقه الأعمى لكذبات من يحتال عليه، في الحين الذي يُقزِّم فيه شأنَ عيادات الطب النَّفسي، ويَسخر فيه من آليات العلاج النفسي، غير آبه بسذاجته حين ينكر الموجود بكل جهلٍ، ويلهث خلفَ الوهمِ بكل سخفٍ وبلاهة، رغمًا عن هذه المُفارقة المُضحكة المُبكية..

سأحاول تناول الموضوع بإلمام لجوانبه العديدة، وربما سيطغى على حديثي-الذي قد يبدو لمن لا مُرادف للأمراض النفسية بقاموسِه ثرثرةً لا فائدة فيها-الطابع النفسي، أي مرارة المُعاناة التي يتجرَّعها المُبتلى بهذا المرض غير المُعترف بهِ "اجتماعيًا" عند العرب.
 

إن أغلب العائلات الشرقية، إذا ما لاحظت مثل هذه الأعراض "الاكتئاب" على أحد أفراد أسرتِها، ستُفكر فورًا في أنَّه مُصاب بعمل شيطاني لا محالةً.

إنَّ أشد الأمور استفزازًا، تصديق السواد الأعظم للأزمات الروحية التي يؤمن إيمانًا مُطلقًا أن الجميع -دون استثناء- مُعرض لأن تُصيبه لعنتها دون سابق إنذار، ولذلك، عادةً ما نجد أنفسنا مُحاطين بكمٍ هائلٍ من الخُرافات التي يغرسونها بِـ "عقلنا الباطن"، إلى درجة أننا نجد أنفسنا أحيانًا غير قادرين على التجرد منها أو تكذيب إحداها إذا ما تعرَّضنا لموقفٍ ما، خشية أن تصيبنا اللعنة التي طالما أرهبونا منها، كخُرافة "الضربِّ على الخشب تفاديًا لتبعات الحسد "المُنتشرة بالمشرق، وخُرافة "تجنب "فحجة" الابن البكر -أي مروره فوق أحدٍ ما مُباعِدًا بين ساقيه-؛ حتى لا تعرقل "فحجته" عملية النموِّ عند الطفل، وهي خُرافة جد مُنتشرة ببلدان المغرب العربي، وغيرها الكثير من الخُرافات التي نسعى جاهدين لتفادي لعنتها، رغم يقيننا الضمني بأنها مجرد ترهات لا تسمن ولا تغني من جوع.
 

وفي المُقابل، نجد من يؤمن بنفس هذه الخُرافات، غالبًا لا يعترف بأنَّ النفس مُعرضة للإصابة بوعكاتٍ شأنها شأن الجسد، ولذلك فإن أغلب أعراض الأمراض النَّفسية -حتى لا أقول جميعها- يُنظر إليها على أنها دلالة على إصابة الشخص باللُبس أو المس الشيطاني، مُستبعدين تمامًا احتمال أن يكون ذلك الشخصُ مُصابًا بمرضٍ نفسي يحتاج تدخلاً طبيًا فوريًا للكشف عنه، والشروع في علاجِه.

وحسب تجربتي بخصوص الاكتئاب، واجتهادي الشخصي في سبيل الكشف عن ماهية المرض، وأعراضِه، ومُسبباته، والتشخيص الطبي الدقيق له، اكتشفت أن مُعظم حالات الاكتئاب، على اختلاف مراحلها وحدَّتها، تشتركُ إلى حدٍ كبير مع حالات المسِّ في الأعراض؛ فنجد مثلاً، أن مريض الاكتئاب يعيشُ حالةً من الخمول والركود، واعتزال النشاطات التي كانت مصدر بهجةٍ له ماضيًا، كما أنَّه يتحوَّل إلى كائن منزوٍ يهاب التجمُعات والأماكن المُكتظة، فيغدو بانطوائيته المستمرَّة، عاجزًا على التواصل مع جميع من حولِه، حتى أقربهم إليه سابقًا.
 

إن أحدًا لا يستطيع تصوُر حجم الألم الذي يُعانيه مريض الاكتئاب، حين يفقِد لذة الانتشاء بالمُمارسات التي كان يلجأ إليها فيما مضَى للترفيه عن نفسِه، فتتحوَّل كل التفاصيل في نظره مُثيرةً للضجرِ. ولعلِّي لا أبالغُ أبدًا، إن قلتُ إنَّه يحيَا "عيشةً ضنكًا" وإن لم يكُن مُعرضًا عن ذكر الله ولم يُضِع أي صلاةٍ أو فرصةٍ للتعبُدِ.. وليس في قولي هذا تشكيك في قدرة الأذكار والعبادات على طمأنةِ الرُوح وبعثِ السَّكينة فيها، وإنما هو تأكيد على أن المرض عضويٌ تمامًا، ويتطلَّب علاجًا دوائيًا، وهذا ما أكده العديد ممن ابتُليوا بهذا المرض وعانوا منه الأمرَّين رغم مواظبتهم على أداء الفرائضِ، حتى أنَّ أحدهم كان حافظًا لكتاب الله، ومع ذلكَ لم يتخلَّص من وطأة الاكتئاب إلا بعد خضوعِه للعلاج الطبي.
 

متى يفهم من يؤمنون بالدَّجالين والمُشعوذين، أن ضالة المُكتئبين توجد عند الأطباء النفسيين فقط دون غيرهم؟ متى يفهمون أنَّ الاكتئاب سرطان حقيقيٌ شأنه شأن جميع أنواع السرطانات الأخرى.

ولا يُمكن القول أبدًا إن أعراض الاكتئاب تقتصر على تدهور نفسية المُصاب، وإنما تتجاوز ذلك إلى الآلام الجسمانية التي تظهر على شكل آلام في الرقبة، ووجع في أسفل الظهر، وصداع مُزمن مجهول المأتى، علاوةً على الارتخاء شبه التام للجسد، والإحساس الدائم بالعجز عن فعل أي شيء، أي الكسل غير الإرادي، وهو ما أشرنا إليه آنفًا.
 

طبعًا، إن أغلب العائلات الشرقية -أي العربيَّة عامةً-، إذا ما لاحظت مثل هذه الأعراض على أحد أفراد أسرتِها، ستُفكر فورًا في أنَّه مُصاب بعمل شيطاني لا محالةً، فإمّا أن يكون سحرًا، أو مسًا، أو عينًا، أو حسدًا، لذلك فلن تتوانى أبدًا عن البحث عن شيخٍ ليرقيه ويُخلِّصَه من "قوى الشر".

وعلى الرغم من يقيني بوجود كل ما ذكرتُ، لكونها مذكورة في كتاب الله، إلا أنني لا أضخِّمها كما تفعل الأغلبية، ولا أؤمن -كما يؤمنون- أن كل عثرة يتعرَّض لها الإنسان هي بفعل الشياطين، ولا كل علةٍ تُصيب المرء، هي بسبب سحرٍ أو مسٍ؛ لإيماني الشديد بأنَّ النفس مُعرضة للإصابة بالأدوَاء -على اختلافها- شأنها شأن الجسد الذي ترتبط معه ارتباطًا وثيقًا، لهيمنة الدماغ على مُختلف الأعضاء البشرية من جهةٍ، وسيطرته المُباشرة على الهرمونات المُتحكمة في الحالة المِزاجية والنفسية للمرء من جهةٍ أخرى؛ فالاكتئاب في حد ذاته لا يُمكن حصره في صنفٍ واحد، نظرًا لتفرُعهِ المُعقد، وتفاوت درجاته.

وتجدُر الإشارة هُنا، إلى أن التفسير الطبي لمرض الاكتئاب، يُمكن إيجازُه في تدني معدل "السيروتونين" بالدِّماغ، وهو الهرمون الذي تُشاع تسميته بِـ "هرمون السعادة"؛ لكونه المسؤول الرئيسي على إمداد المرء بالبهجة والرضا عن ذاته والرغبة في الحلم والتأمل والعمل في سبيل تحقيق ما يأمل إليه..

متى يرحمون المكتئبين ويشفقون عليهم كما يشفقون على المُصابين بكل الأمراض الفتَّاكة الأخرى، لكونها تشترك جميعًا في نفس المصير إن لم يتم علاجها.. "الموت"!

ولكُم أن تتخيلوا إذن حالة من تتدنى لديه نسبة هذا الهرمون، بما فيها من ضجر وتذمر من الذات وفقدان للأمل وانعدام للإيمان بالجدوى من الوجود التي يجد نفسَه غارقًا فيها، والتي غالبًا ما تصل حد الشعور الحاد بالذنب والتأنيب شديد القساوة للضمير دون وجود أي ذنبٍ يستحق ذلك الجلد الذاتي الذي قد يصل به -بدوره- إلى التفكير الجاد في وضع حدٍ لحياتِه حتى تنتهي المأساة التي لم يجد حلاً للتخلص منها، خاصة مع عدم تفهم من حوله للمُعاناة التي يمر بها، فيجد في الموت ملاذًا للفرار من دوامة لا تأخذه إلا إلى حيث بدأت مأساته.. دوامة تزيده تخبطًا يومًا بعد يومٍ، دون أن يسمع صُراخه أحد..
 

متى يفهم من يؤمنون بالدَّجالين والمُشعوذين، أن ضالة المُكتئبين توجد عند الأطباء النفسيين فقط دون غيرهم؟ متى يفهمون أنَّ الاكتئاب سرطان حقيقيٌ شأنه شأن جميع أنواع السرطانات الأخرى، يأكل خلايا النفس رويدًا رويدًا، ويقتل الحياة فيها كلَّما ساءت حالة المريض دون مُراقبة طبية، إلى أن يُلقي الأخيرُ نفسه -لا إراديًا- في أحضان الموت، بحثًا عن حُضنٍ أكثر شفقةٍ ورحمة من كل الأقارب الذين طالما عجزوا عن أن يكونوا قريبين منه بالمعنى الحرفي طوال مُعاناته؟
 

كيف يفهمون أن الاكتئاب هو الذي دفعه للموت، أي مرضه لا ضعف إيمانه، وأن المُكتئب الذي انتحرَ كان مريضًا، و"ليس على المريض حرج"؟ متى يكفون عن تبشيره بالجحيم الذي ينتظره في قبره، قبل عذاب يوم الحساب، فيما أنهم غافلون عن أنه كان يُعاني ظلمة القبر قبل أن يموت، وأنه تعذب طويلاً بسبب مرضه قبل أن توافيه المنية ولكنهم كانوا "لا يشعرون"؟! متى يرحمون المكتئبين ويشفقون عليهم كما يشفقون على المُصابين بكل الأمراض الفتَّاكة الأخرى، لكونها تشترك جميعًا في نفس المصير إن لم يتم علاجها.. "الموت"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.