شعار قسم مدونات

وارثو الهزيمة

blogs - حلب

أحبُّ أنْ أرى نفسي منَ الجيلِ المتوسطِ، الذي تربى على يدِ الجيلِ الذي عاصرَ النكبةَ وتبِعاتها ولا يزالُ يصرُّ الكثيرُ من أبنائهِ على العيشِ بها وإبقاءِ منْ حولهُ في جوِّها العام، وبينَ الجيلِ الناشئِ الذي لم يعرفْ بعدُ الهزائمَ والمؤامراتِ والإحباطاتِ المتتاليةِ، فهوَ تماماً كورقةٍ بيضاءَ نرسمُ عليهِ ما نشاءُ، من لوحةٍ عبقريةٍ تفتحُ المجالَ لفكرةٍ اخرى واتجاهٍ فنيٍّ مبدعٍ جديد، او أن تكونَ هذه اللوحةُ كنسخةٍ مشوهةٍ لما قبلها، مسخٌ لا يملكُ دافعاً أو إمكانياتٍ ابداعية لإثراءِ من يأتي بعده.
 

إنَّ الجيلَ السابقَ قد أسقطَ على أبنائه خيبتهُ بلا علمٍ أو سبق تخطيط، لأنهُ كان مليئاً بالإحباطِ ولم يستطع أن يرى مستقبلاً ممكناً له وللمنطقةِ.

جيلنا هذا عليهِ أن يفكرَ، وأتمنى من الجيلِ السابقِ أن يفكرَ أيضاً بجدٍ في النتيجةِ التي يراها أمامهُ ومن صنعِ يده ونتيجة لميراثه التاريخي الطويل للهزائم، علينا ان نفكر في هذا الجيلِ المتوسطِ المنهزم المليءِ بأحمالٍ موروثةٍ من الخيبةِ والعنصريةِ المفرطةِ واليأسِ من التحركِ للأمام خشيةَ الرجوعِ للخلفِ مئة عامٍ اخرى، جيلٌ مليءٌ بالترقبِ والخوفِ من الغيرِ والمثقلِ بنظريةِ المؤامرة، بطبيعةٍ تميلُ تلقائياً للهجوم الشرسِ على أي نقدٍ للاعتقاداتِ الأساسية من موروثهِ الثقافي والتاريخي كأنها مسلماتٌ لا يجوزُ التفكيرُ بها أساساً فكيفَ بالتفكيرِ في تغييرها، ماذا استفدنا جميعاً من هذا الأسلوبِ في التربيةِ؟

 

 وإن لم تكنْ تربيةً ذات تخطيطٍ او نيةٍ مسبقة وهذا ما اخشاه، أنَّ الجيلَ السابقَ قد أسقطَ على أبنائه خيبتهُ بلا علمٍ أو سبق تخطيط، لأنهُ كان مليئاً بالإحباطِ ولم يستطع أن يرى مستقبلاً ممكناً له وللمنطقةِ، وما أخشاهُ حقاً أن نقومَ نحن بالمقابلِ ممن ورثنا الخيبةَ أن نسمحَ لها أن تمتدَّ لأبنائنا بلا علمٍ منا من خلال كلامنا وتصرفاتنا وحتى وقفتنا واللغةِ الجسميةِ لنا، أكادُ أجزمُ أن جيلنا هذا كله وُلِدَ محنيَّ الظهورِ من فرط ثقلِ الهزائمِ التي يحملها وليس له يدٌ بها.

هدفي هنا ليس الهجوم على الجيل السابق، فأنا أقبّل أياديكم وادعو لكم ليلَ نهار، وربما لو مررنا بما مررتمْ به لكنا فعلنا كما فعلتمْ، فنحن وأنتم لم نكن ضحايا الهزيمة على محض الصدفة، اقرأوا معي كيف يصفنا آلفرد لايل والذي كان مثابة عراب للنظرة الدونية للشرق، لقد قال: " أما عقل الشرقي فهو، يفتقر بشكل بارز إلى التناظر. ورغم أن العرب القدماء قد اكتسبوا بدرجة أعلى نسبياً علم الجدلية فإن أحفادهم يعانون بشكل لا مثيل له من ضعف ملكة المنطق. وغالبا ما يعجزون عن استخراج أكثر الاستنتاجات وضوحاً من أبسط المقدمات التي قد يعترفون بصحتها بدءاً "، أو إذا شئتم اقرأوا هذا الوصف "إن الدقة كريهة بالنسبة للعقل الشرقي".

 

أدعو أبناء جيلي الذين ارتأوا أن يتغنوا دائماً بإنجازات أجدادنا المسلمينَ والعرب كمهربٍ من الانهزامية التي تربوا عليها.

إن النظر فيما كتبه الغرب عنا في دراسته السطحية للشرق، منذ مئات السنين يدفعنا لإعادة التفكير في مسلماتنا عن طبيعتنا، هل نحن حقا كما يقولون نفتقر للقدرة على المنطق أو الدقة أو حتى التفكير الذاتي البسيط، أم أن هذه القناعة قد مررت لنا على مدى مئات السنين حتى أصبحت جزءاً من ثقافتنا الذاتية، حيث أقل وصف يذكره أحدنا (عنّا) أننا متخلفون ولا أمل يرجى منا، هل نحن حقا هكذا، هل نحن أهل للهزيمة المستمرة وعلينا التسليم بها! أم أن طريقة تفكيري وتفكيركم كانت نتيجة عمل مئات من السنين لإقناعنا بالدونية التي لا هروب منها. إذن لماذا نصر على طريقة التفكير هذه التي لم تنتج سوى هزيمة وراء الأخرى، لماذا لا نتجه للتفكير بطريقة جديدة بعيدة كل البعد عن الفكر الانهزامي بهدفِ الوصولِ إلى نتيجةٍ تكون ُهي نقطةَ البدايةِ في صناعةِ التغيير.

أنا أدعو أبناء جيلي الذين ارتأوا أن يتغنوا دائماً بإنجازات أجدادنا المسلمينَ والعرب كمهربٍ من الانهزامية التي تربوا عليها، أرجوكم لا تجعلوا أبناءكم كما جعلنا آباؤنا منذُ الصغرِ ذوو أكتاف مثقلة نحملُ فوقها تراثاً ثقيلاً من الخيبةِ والإحباطِ جعلنا من الداخل مُتلفينَ بما لا يمكنُ اصلاحه، وعمرنا الفكري الانهزامي مئات من الأعوام، وان كنّا في جيبِ الثلاثينياتِ او الأربعينيات.

 

 توقفوا الآن، الآنَ ولا مجالَ للتأجيل، لا تحدثوا أبناءكم عن تخلفِ العربِ المعاصرِ او عن ما كنّا عليه قبلَ الف سنة، لا تحدثوهم إلا عن المستقبلِ، لا تحملوهم إرثاً و تاريخاً دامياً وصل بكم لما أنتم عليه الآن، دعوهم يفكرونَ بطريقتهم ولا تحاولوا توجيههم لكرهِ هذا او الإختلافِ مع ذاك، أرجوكم وأرجوكم لا توروثوهم العنصرية، دعوهم يناقشونكم ويختلفوا معكم بلْ وأعطوهم دفةَ القيادةِ في النقاش، حاولوا وقاتلوا حتى تغيروا أساليبَ التعليمِ الباليةِ التي شكَّلت عقولنا بهذا الشكلِ الخاطئ، فليعملْ كلٌّ منا في مجالهِ ليس من أجلهِ وإنما من أجلِ خلقِ بيئةٍ أفضلَ لأبناءنا، إفعلوا هذا وأنا أعدكم أنَّ المستقبلَ لن يكون كالماضي ولا كالحاضر، فقط لا تقولوا لأبنائكم كما نُحِتَ في عقولنا "العرب متخلفين و رح يضلوا طول عمرهم متخلفين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.