شعار قسم مدونات

نحن الذين نصنع الدواعش..

blogs - isis
لما كنت صغيرة علمونا أن الفتاة المحجبة "مؤمنة"، والتي تمشي حاسرة الرأس "فاسقة"، ولا ضير أن تصنف أنها مارقة من الدين وكافرة!؟ وأن الذي يصلي سيذهب إلى الجنة لا محالة (متغاضين -في كثير من الأحيان- عن كذبه وغشه…)، والذي يهمل في صلاته أو يسرع فيها سيكون مصيره إلى جهنم (ولو كانت أخلاقه عالية)!؟ وجعلوها وكأنها أحكام فاصلة؛ مع أن الإنسان يتغير ويتبدل وقد يصبح كافراً ويمسي مؤمناً؛ فعلام الاستعجال بالحكم عليه؟!

وهكذا سمحوا لنا وشجعونا على أن نُقيّم الناس ونصنفهم، ونحدد مصيرهم الأخروي (مع أن حسابهم على الله)؛ حتى صار الصغار يمشون مع أمهاتهم وآبائهم في الشارع فتُحرج الصغيرة والديها حين تشير لسيدة، وتسأل بصوت عال: "أمي، هذه كافرة؟ ومصيرها إلى النار"!؟ أو يتحمس الصغير فيقول لها: "يا عيبو كيف تمشين بهذه الملابس القصيرة في الطريق، أنت فاسقة". فهل يحق لنا الحكم على ظاهرهم، أليس الله بأعلم بما في قلوبهم؟!

وفي المدارس يُدرسون الأبناء الصغار التوحيد والعقيدة، وبماذا يكون المرء مؤمناً، وما الذي يخرجه من الملة، وعن عقاب المرتد وهل يقتل كفراً أو حداً… فشوشوا فطرتهم الصافية التي جُبلوا عليها؛ وإنه ما من مولود إلا ويولد على الفطرة النقية؛ فعلام يُفسدونها بتدريس الأطفال الأحكام التي اختلف العلماء الكبار فيها، خاصة وأنها من مهام الدولة المسلمة ولا علاقة للأفراد بها؟

لا تجعل لك شيخاً ولا تقدس أحداً، بل تأمل واسمع من عدة علماء، من بلدك ومن علماء المسلمين في سائر الأرض، ولا تلتزم مع جماعة قبل أن تتفحص الساحة.

أليسوا يَدَّعون أن العامة يُفتنون ويُخشى عليهم؛ فيُخفون عنهم –بهذه الحجة- أحكاماً شرعية مهمة تُصلح حياتهم، ويلومون من يفشيها لهم… ثم يوقعونهم بهذه الفتنة الكبيرة العظيمة؟!

ومما مهد للتكفير ما صنفوه من المكفرات: كأن يعلق الناس خرزة زرقاء لرد العين، أو يحلفوا -لغواً- بالذمة أو الكعبة أو النبي.. أو يقولوا في الدعاء "اللهم استجب بجاه فلان"… وهي أمور بريئة عادية، يصنعها الناس تقليداً لآبائهم مع جهلهم بتأويلها، وكلها أمور من باب العادات السائدة، ولم تكن لتمنع من الإيمان أو يقصد بها الكفر،وهي موجودة في كل المجتمعات، ومنتشرة بين العامة أصحاب الفطرة المؤمنة السوية.

ولكن جاء من يقول لهم أنها شرك ومروق من الدين؛ حيث ربطوها بالعقيدة وجعلوا من يفعلها كافراً ومشركاً، فوقعوا وأوقعوا الناس في إثمين أعظم وأكبر: أولهما إثم التكفير، وفوقه إثم آخر: التألي على الله واستساغة تصنيف الناس للجنة أو النار. وهكذا زرعوا بذور التكفير، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

وكل ذلك فعلوه مع الصغار، فشوهوا إيمانهم الفطري، وجعلوا عقولهم الصغيرة تذهب هنا وهناك، وتفكر بطريقة غريبة وجدلية. ونشأ هذا الجيل على هذه الأفكار، وظنها من أساسيات الدين ولوازمه.

ولأننا شعوب مسلمة -والدين يبقى دستورنا، ومن خلاله نقيم حياتنا- ضاع أبناء الجيل بين دين نشؤوا عليه، وعلم شرعي درسوه واقتنعوا به. وبين واقع مرير مليء بالتجاوزات. فلما كبر الجيل وسادت العولمة وفقعت، وزاد الواقع سوءاً، وانتشرت المخالفات الشرعية وتفاقمت، لم يسع عقول الشباب ما يرونه من تجاوزات، فاستساغوا التكفير وتقبلوه، لأنه يعيد لهم توازنهم الفكري والنفسي والديني.

وهكذا كان الحل الأمثل بالتكفير والبراءة من المجتمعات العربية الإسلامية، والاتجاه إلى من يرفع الشعارات الدينية (دون تمحيص فيما يخفي وراءها من مآرب ومصالح دنيوية)، فكثر أتباع الفئات المتشددة الضالة، وأصبحوا تياراً ضَرَّ الثورات، وتسبب بالحرب على الإرهاب، والتي هي بحقيقتها حرب على كل إنسان خَيِّر في هذه الدنيا.

والطامة أن بعض الشيوخ والدعاة يساعدونهم من حيث لا يشعرون، وذلك حين ينغلقون على فتاوى قديمة، ويُغلون في الدين، ويسوقون الناس للتشدد والتكفير، ويجعلون من أنفسهم قضاة يحاسبون ويستنكرون.

واُدخلوا وسائل التواصل، واقرؤوا التعليقات، تجدوا أي كتابة (فيها رؤية عصرية تحل إشكالية) تصبح جريمة برأي هؤلاء، وتبيح لمن يظن منهم في نفسه العلم، وله لحية (لتثبت له المشيخة والالتزام)، أن يُعلق ويشنع ويتهم أصحابها في نياتهم وفي عقيدتهم وفي اتجاهاتهم وأهدافهم… ذلك لأنه ظن أن الدين يبيح له أن يحكم على الآخرين ويصنفهم!؟

وصاروا يوجهون نقدهم إلى كل مجدد في الدين أو مصلح يأتي بجديد مبدع، فإذا هو بتصنيفهم منافق أو متخف أو مارق. وهكذا جرؤوا العامة على التكفير والتفسيق، وجعلوا الشرع حكراً عليهم!؟ ثم يخبروننا بضرورة استعمال عقولنا كما جاء بالقرآن، وأن ديننا ليس فيه كهنوت ولا بابا ولا قسيسون أو رهبان، يقولون لنا هذا ثم يشيعون أن العلماء لحومهم مسمومة وأقوالهم قطعية، فلا يُرجع عليهم، فأشاعوا تقديسهم، وأنهم نواب عن الأنبياء، فصار الشاب يتبع شيخه ولا يرد على والده أو عقله أو واقعه… يرى القذاة في أهله ولا يرى الجذع في أستاذه، ومهما فعل يحترمه ويقدره، فيبقى مُنزلاً وأقواله الفيصل (وسيبقى بهذا تحت وصايته ولن يفلت يوماً).

ونصيحتي للشاب للخروج من ذلك أن لا تجعل لك شيخاً ولا تقدس أحداً، بل تأمل واسمع من عدة علماء، من بلدك ومن علماء المسلمين في سائر الأرض، ولا تلتزم مع جماعة قبل أن تتفحص الساحة، وليس كل من قال أنه شيخ أصبح فاهماً وقائداً. وإن العالم المفكر المجدد ليختلف عن عالم الرواية ويختلف عن الشيخ الداعية، فالأول يعطيك ما نحتاجه اليوم، والثاني ما كان عليه السلف وقد اختلف، والثالث ليس أكثر من واعظ يذكرك، فلا يؤخذ منه علم، ولا يصح اتباعه في كل أقواله، لأن الحماسة قد تبعده عن الصواب وعن الإخلاص.

على أن القضية والمشكلة الأساسية أننا سوغنا لأنفسنا الحكم على الناس، وتحديد درجاتهم عند الله، ومحاسبتهم على أعمالهم!؟ وإننا بذلك وكأننا نهيأ الشباب ونمهد لهم ليصبحوا من أتباع داعش وأخواتها!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.