شعار قسم مدونات

كل شي أوتوماتيك

blogs- أوتوماتيك

في الحوارات الجادة أو التهكمية التي نخوضها مع آباءنا وأجدادنا حول أسلوب حياتنا، وما ينعتوننا به أنّنا "جيل آخر زمن" و"جيل البسكوت"، بينما تسطر أمهاتنا بكلامها كل البطولات التي كانت تقوم بها في أعمال المنزل وغيرها، بينما الجدة تتحدث عن أعمال أكثر شقاءً وتعب، أعمال في الزراعة والحصاد وغيرها، وأعمال أخرى كالبيع في السوق لتكسب قوت يومها لتطعم أطفالها الأيتام.
 

عندما أجلس مع ذاتي أراجع كلماتهم، تتلخص لي الأشياء في أمرين:
الأمر الأول: أن الإنسان طاقة هائلة وكامنة ولا يكتشفها إلا مع العمل؛ بل والعمل الجاد جدًا، يكتشف أنه ثمة أشياء لم يكن في حسبانه يومًا أنّه سوف يقوم بها بهذا الشكل وبهذا الكمّ الكبير والمتواصل، يستغرب من طاقته التي فعلًا يجهلها وتضيع منه كلما مرّت السنين.
 

كل شيء حولنا أوتوماتيك وفّر لنا وقتًا وجهدًا أضعاف ما كنا نملك، فهل أنجزنا نحن أضعاف ما كنّا ننجز؟!

الأمر الثاني: هو أنه طالما أن كل شيء حولنا في حياتنا اليوم أصبح "أوتوماتيك" فأين نفرّغ تلك الطاقة التي كنّا نزرع بها البذرة وننتظر الثمرة، حتى إذا آتت الثمرة نضجها حصدناها لنقوم بها بأشياء عديدة من طعام وغيره. الآن تأتينا الثمار مقطوفة وجاهزة، وماذا عن طاقتنا.. أين ذهبت؟!
 

عندما استذكر مثالا بسيطًا وهو موجود في بعض البيوت ليومنا هذا وهي "الغسالة النص أوتوماتيك"، عندما كانت ربة المنزل تقوم ب"حفلة الغسيل"، تصنف الملابس بناءً على الألوان، لكل لونٍ وضعه الخاص، حتى إذا انتهت من غسل الملابس باشرت بنشرها على الحبال في ترتيبٍ وتناسق بين الألوان وبين الأحجام! هذا القدرة التحليلة خلال العمل والتي ربما ضاعت مع "الغسالة الأوتوماتيك" أين ذهبت هذه القدرة والطاقة؟ هل استغلّت في شيء آخر؟ أم ذهبت أدراج الرياح.
 

لدي قناعة كبيرة في أنه طاقاتُنا البشرية تكون مجموعة في ما أسميه "محصلة الطاقات" فمن أراد القيام بجهد صُرفت له طاقة إضافية من هذه المحصّلة، ومن تخلى عن طاقته ذهبت لغيره ليعمل وينجز ويبدع. في الوقت الذي تتوفر فيه كل الإمكانيات الإلكترونية والاتصالات، والمعلومات والوسائل للحصول على أي شيء نريد القيام به، نكتفي نحن بأن نُريح أنفسنا فقط ونستخدم هذه الإمكانيات لإراحة أجسادنا وعدم إقحام عقولنا في معمعتِها إطلاقًا.
 

لذلك تتقدم دول بينما تتراجع دول؛ لذلك نشعر أننا لسنا في مكاننا وحسب، بل نرجع للوراء، لان من يصنع ويبتكر ويخترع لسنا نحن، وعندنا استخدمنا ما صُنع لنا ولكل العالم لم نُعمل عقولنا في شيء آخر، ولم نستخدم ما وصلت إليه التكنولوجيا في أشياء تدفعنا للأمام، لم نكتب جيدًا، ولم نحاور جيدًا، ولم نحلل نقارن نركّب الأمور جيدًا.
 

لست أتخيل يومًا ما لو أصبحت بيوتنا كلها ذكيّة، ما فائدة الإنسان "العادي" وقتها غير أنه يستنفذ طاقات الكون في أكله وشربه ونومه، يستنفذ الطعام والأوكسجين والماء ولا يقدّم شيئا لهذا الكون ولا لمن يعيشون فيه.

ربما من الصعب حاليّا أن نسمك بزمام الاختراعات؛ لكن على الأقل يجب أن لا نجعل من هذه الاختراعات لعنةً علينا، يجب أن لا تكون -على سبيل المثال لا الحصر- أجهزتنا الالكترونية هي التي تربي أبناءنا.

 والوقت الذي كان من المفترض أنه مهدر في أعمالنا ما قبل انتشار الأجهزة المريحة، مفترض لهذا الوقت أن يمتلئ بشيء مميز وفريد. كل شيء حولنا أوتوماتيك وفّر لنا وقتًا وجهدًا أضعاف ما كنا نملك، فهل أنجزنا نحن أضعاف ما كنّا ننجز؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.