شعار قسم مدونات

هل تفي "الجزيرة" بوعدها؟

blog تدوين جديد

هذا ما تبادر إلى ذهني في اللحظة الأولى التي صافحت فيها عيني إعلان "الجزيرة" إتاحتها "التدوين" لأرباب الكلمة، إذ أعاد إلي تاريخاً من التجارب الجميلة والخيبات مع هذا الصنف من الإبداع، فمنذ أن أطل "الإنترنت" على العالم العربي، وتجارب التدوين بمعناها العام، متتابعة، إلا أن شيئاً منها لم يصمد، إذ لا يلبث أن يذوي، وتذرو الرياح أكثر ما أودع فيها الكتّاب.

وقع ذلك للكثيرين مع إيلاف، ومكتوب، وياهو، والساحة العربية، وشبكة الليبراليين. وسواها مما أعرف ولا أعرف.
 

أن تفتح الباب لذوي اللسان العربي قاطبة وتستهدف حتى أولئك الذين لا يزالون في طور التعرف على المجال، مثلما ألمح مدير الجزيرة، فتلك "مغامرة" مذهلة.

لكن عراقة "الجزيرة" وإمكاناتها، جعلت الذهن ينصرف إلى أنها، ربما خصت بفرصتها المشاهير، ممن يستقطبون قراء وجماهير واسعة، إن كانوا كتاباً أو سياسيين، أو نجوم منصات اجتماعية، مثل "الفيس، وتويتر"، أما أن تفتح الباب لذوي اللسان العربي قاطبة، وتستهدف حتى أولئك الذين لا يزالون في طور التعرف على المجال، مثلما ألمح مديرها، فتلك "مغامرة" مذهلة.

 

لكن ما ذا عن الاستمرار؟
إن هذا الامتحان هو الذي سقطت فيه أكثر المنصات الناطقة بالعربية، ولأنه حالة ظلت هاجساً للمدونين، حرصت إحدى مؤسسات التدوين الشهيرة على اتخاذ "خدمة مجانية، وستبقى كذلك إلى الأبد" شعاراً لها. هذا الهاجس له ما يبرره، فأن تكتب خلاصة حياتك، بأحرف مدادها الروح، ثم تصبح ذات يوم وقد أضحت سراباً، حالة مرة، ونقض للغزل مفجع. 
 

إلا أن مصداقية "الجزيرة" تجعل الكثيرين يتفاءلون بأنها ستكون الاستثناء العربي، إذ على رغم العودة الجديدة إلى "التدوين" من جانب مؤسسات إعلامية مثل "هافينغتون بوست"، نجحت عبرها في استقطاب أقلام قيمة، إلا أنه في موازين البحث عن الربح، لا يمكن الرهان، على توجه كهذا، خصوصاً إذا كان المنطق غربياً، فالتجربة التي لا تجلب الربح، تدحض. انتهى. 

لماذا ندوّن؟
قد يقال: لماذا كل هذا الهوس بالتدوين، خصوصاً من جانب صحافيين لديهم منابر، أو مذيعين أو كتاب أكثر وقتهم يذهب رحيقه في البحث عن معلومة أو فكرة، كان الركض خلفها قوت أمهاتهم أو أبنائهم؟ إنها لعنة أو نعمة أن تكون مولعاً بـ"الكلمة"، فمهما وجدت من منفذ، يظن كاتبها أنها تستحق مزيداً من الأوكسجين، والعمر المديد. 
 

ثم إنه ألا يستحق هذا الصحافي الذي يهتم طيلة حياته بهموم الناس ومشكلاته، أن يُبقي لنفسه ساعة حرة، يعبر فيها عن ذاته، أو ما وراء أخباره وتقاريره ورحلاته، ومغامراته، ناهيك عن أوجاعه وأحلامه، وطوفان شبابه، ولغو حياته.

الكلمة وحدها، قادرة على أن تحدثك أنت أو أطفالك، عندما تصبح سياسياً مرموقاً، كيف كنت حافياً ونصف عارٍ في أحد أزقة قريتك في ضواحي الرياض، أو الرباط أو حتى أنغولا.

إن قيمة "التدوين" من حيث التعبير عن الذات، وقراءة صفحات العمر بعد سنوات، وقص أثر النفس بعد تحولات ومسارات ورحلات، لا يضاهيه أي عوض مادي، أو مجد لحظي، يبلغ عنفوانه أياماً، أو سنوات ثم يرحل.

حتى تلك الإنجازات الصحافية المكتوبة أو المسموعة، التي ينجز "خبطاتها" الصحافيون، تتحول ارقاماً في المصرف، تنفق أو تنهب، ثم وقوداً أحياناً لنزوات الشباب، ونزعات النفس في الترحال والسهر وفضول الحياة، بينما تبقى الكلمة حية، تزداد نوراً وضياء ووزناً، كلما تقدم بها العمر، وعبّرت عن حال كانت وأصبحت إلى غير رجعة. 

الكلمة وحدها، قادرة على أن تحدثك أنت أو أطفالك، عندما تصبح سياسياً مرموقاً، كيف كنت حافياً ونصف عارٍ في أحد أزقة قريتك في ضواحي الرياض، أو الرباط أو حتى أنغولا. وهي التي تحدث جيلاً من أمثالي كيف كانوا رعاة، حتى غدوا في أقل من عقدين، راكبين الفارهات من السيارات، ينتقون أفخم الساعات، ويتورعون عن ماض يتردد بين البغال والحمير والدراجات.

التدوين ليس كلمة عابرة، بل هو توثيق للذات، وخُلد باليد، "ربما" كان ذات يوم أغلى على النفس من أشياء عدة، في مقامات عليةٍ هذه الأيام، ذلك أن كل "متاع الدنيا قليل". 

أما الكلمة، فأصلها خالد وفرعها في السماء. 
"بسم الله نبدأ"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.