شعار قسم مدونات

ميلادٌ آخر..

blog-جنازة

حينما رأيته مُسجّى على مغسلة الموتى، متّ ألف مرةٍ كمداً ووجعاً، في ذلك اليوم ماتت بداخلي مشاعر أبت أن تُبعث مرةً أخرى.. حاورته ميتاً وما الأحياء بأسمع منه، تحسست ملامحه، تخيلتهُ مجاوباً ومجادلاً حتى.. قاطعت ابتسامته الرائقة الحديث.. وتوقفت هنا.

قلّبتُ جسده الهزيل، تخللت المياه شعر رأسه.. "سرّحت" له بيداي كما تعود وأحب، خصلاتٌ أمامية وأخرى بشكلٍ متناثرٍ في المقدمة، لم يكن ينظرُ إليّ.. حينها أدركتُ أنها النهاية.. على أمل اللقاء.

كان المرض قديما هو بريد الموت.. أما اليوم فتعددت الوسائل والموت واحد، قذائف الطائرات التي تقض مضجع الآمنين هي موتٌ قبل موت

زرتهُ مراراً في قبره، شكوته الحال، وسألته رفقة، تارةً أُطمئنه وأخرى لا أتمالكُ نفسي منهاراً لأبثّ له أحزاناً لم يسمعها سواه.. أخبرني بأنّه في حضرة ملكٍ رحيـم، وعالمٍ مختلف، أخبرتني مشاعري ذلك… وللحديث بقية.

في حضرته تقف كل الحياة، تتوقف الأرض عن الدوران.. يخيّم الظلام، وتخبو كل الأنوار حتى الشمس.. احتراما لميلاد آخر…"المـــوت"

الموت هو مستقر كل الأحلام، هو غاية كل شيء وخاتمة كل قصة.. دون الإلتفات لهوية صاحبها ومكانته، هو منتهى علمنا.. وأجل حياتنا التي ظللنا نصارع من أجل الظفر بها قبل أن يدركنا هادم اللذات مبشرا بنهاية قصة وبداية أخرى.. هو خلاص الروح من سجن البدن ومن ضنك العيش.. هو خلاصها من أوجاعها وآلامها.

تقدم كل شيء في حياة الإنسان إلاّ تفكيره في الموت، الحزن، المصيبة، الرعب، الكارثة، الخسارة، اليأس، الوحدة، الخوف، الوحشة.. كلها نفحة من الموت وفوحةٌ من مفهوم الحقيقة الأبدية.. عجباً له !! كيف يحيلُ حياتنا إلى العدم كأننا لم نعشها قط..؟ كيف نودّع من سكنوا أجسادنا روحاً ونقبل كونهم ماتوا ؟ كيف يكون ذلك..؟ أيعقل هذا..!!

الموت ذلك الحقيقة المقلقة المحيرة.. يزورنا مرة في العمر ليأخذنا عن هذه الدنيا أبد الدهر، حيث طريق اللاعودة… حينها تتمنى لو أنه انتظرك لحظات، لتعبر عن حب، وتعتذر عن خطأ، لتقبل كلمة آسف بقيت معلقة لسنوات، وتحتضن أمّا هي في أمسّ الحاجة لعطفك حين عجزها، لتحاكي أباً طالما رمقك بعين دامعة شوقا لحديثك وقت وحشته، لتُقبّل زوجتك شكرا وعرفانا وتمنحها فرصة البوح، لو انتظر قليلا لتحضرٓ زفاف ابنتك التي حاولت مراراً الإفصاح عمّا في قلبها لك، لابنك التائه بحثاً عن ملاذك، ترجوه أن ينتظر حضور إخوة الدم والروح والرحم.. أولئك الذين لم تلقهم منذ عدة سنوات.. خصومةً وجفاءا !! وياللأسف… الموت لايتتظر.

كل شيء يموت، حتى الموت.. سيُذبح ما بين الجنة والنّـــار، سيُأتى به على هيئة كبش أملح ويذبح… تموت القلوب حين تغدرُ وتخون، تموت الإنسانية عندما تكره وتقسو، يموت الحب عند اللامبالاة وساعة الكذب، وتموت الأخلاق بموت النخوة والمروءة، تموت الشعوب جهلا وتخلفا.. تموت بانسداد الأفق ، ويموت الدين حينما يكون خالصا للناس نفاقا ورياءا، يموت الأمل ساعة الخيبة، نموت نحن ألف مرة ومرة قبل أوان الرحيل… وبموت من نحب نموت.

كان المرض قديما هو بريد الموت.. أما اليوم فتعددت الوسائل والموت واحد، قذائف الطائرات التي تقض مضجع الآمنين هي موتٌ قبل موت، قتل الأطفال هو موت ملائكي، وعذاب الشعوب هو موت بطيء به تشقى الأمم.. فكم من مجتمعات ميتة دون أن تشعر..؟

عندما تفارق النفس الجسد يصبح اسمها "روحاً" بعدما كانت نفساً، تتنفس حبا وأملا وشوقا.. تتنفس تعبا وضنكا وضيقا… اليوم هي تتنفس راحة لم تنشدها يوما.. راحة الموت، وهل في الموت راحة..!!؟

آلام الولادة أشد من آلام النزع، ففي كل طلقة من طلقات الأم يتهشم ضلع ويتكسر جسد، في سبيل الخلاص…وولادة حياة..ومع ذلك يبقى الخوف من سكرات الموت هاجسا يسيطر على الجميع، وهم الذين لم يتذوقوا آلامه ويقاسوا معاناته ..فلماذا لا يكون الموت جميلا..؟ ولماذا لا نستشعر لذة هذه المتعة، متعة النهاية.. حيث نشوة بداية أخرى لم تتلوث بعد بأخطائنا.

"هل سافرت يوماً إلى مكان بعيد وأنت في شوق شديد، أو حنين قوي إليه..هل عدت من غربتك يوماً إلى وطن الطفولة والأحباب.. صوت الحافلة وهي تقترب من الحمى، أو نفير القطار وهو يطرق المدينة، أو أزيز الطائرة وهي تشرف على تراب الأحبة.. هل وجدت قلبك يدق فرحاً وغبطة ؟.. تلك هي جمالية الموت.. حيث انسياب الروح في مملكة السلام، و انطلاق الشوق إلى الرب السلام.." جماليةٌ صورها الأنصاري، ولك أن تتخيلها.

الروح لا تفنى؛ هي كاللوح والقلم والجنة والنار.. لا نعلم مستقرها أو مآلها، لا علم لنا بماهيتها أو تركيبتها، فقط يبقى صيتها وأثرها

الموت جميل للمتعبين الذين شاقوا الحياة وقاسوا مرارتها، للفقراء الذين عايشوا كدر الحاجة وضنك الفاقة.. للمحبين الذين طعنتهم الخيانة، هو رحمة للمرضى والعجائز.. هو رحمة بالخلق حين موت الظالمين.

الموت هو مرادف الحياة، والحياة هي الوجه الآخر للموت.. بموتنا نحيا، تحيا مشاعرنا التي كمدناها عمرا، فنشعر بألم الراحلين حزناً.. بموتنا نرحل لنعيش تجربة أخرى غير التي كانت، نرحل لمقابلة الرحمن، نشكوه ظلما وخذلانا.. نحكي له أوجاعا وآلاما، نرجوه مرحمة وإحسانا .. نرفع له دعوانا في حق الظالمين والمجرمين والقاتلين والغاصبين.. ونلتمس عنده انتقاما.

حكمة الموت بالغة، حكمة تبعث على الطمأنينة، هو يقتلنا كل يوم.. يستأصل من أنفاسنا عمرا فندنو منه أكثر، يأخذ من نحب فيقتل فينا شعورا لا يحيا..يجتث كل شيء قبل أن نسلمه أراوحنا طواعية…ثقةً فيه، واحتراماً لموعد لا يخلف.

الموت هو بداية أخرى، مرحلة جديدة لحياة تالية، هو ليس إلاّ تمهيد لعالم أبقى، به تلقى الأحبة وتروي ظمأ الاشتياق، هو باكورة فصل آخر..من عالمٍ مجهولٍ نعلمه غيباً.

الروح لا تفنى؛ هي كاللوح والقلم والجنة والنار.. لا نعلم مستقرها، أو مآلها، لا علم لنا بماهيتها، أو تركيبتها، فقط يبقى صيتها وأثرها…ذكرها الفائح طيبا نتاج حياتها الأولى.. فقط هي التي تبقى، ذلك أن الموت عادل مقسط..لا يأخذ فوق حاجته، ولا ينكث ما تعاهد به…الموت وفية… ونحنُ نحب الأوفياء.

في نهاية مضمار الحياة نتوج بالموت، كجائزة تعب، وذكرى مرور..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.