شعار قسم مدونات

مواسم العودة للوطن

blogs-سوريا
معبر باب الهوى – ليلة عيد الأضحى 1436/ 2015

حشود اللاجئين المتوافدة باتجاه معبر باب الهوى الحدودي الفاصل بين تركيا وسوريا – أهم المعابر البرية – جراء الإعلان عن قرار يسمح للاجئين السوريين في تركيا بزيارة أهاليهم فترة العيد والعودة خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ الدخول، وهي المرة الأولى التي يتم فيها السماح للاجئين بالعودة منذ أن تم إغلاق الحدود في مارس المنصرم.

تقدر أعداد المتوافدين إلى منطقة الحدود بعشرة آلاف شخص، البعض يتكلم عن أكثر من ذلك، ولكن ما كان ملحوظاً أن المنطقة المحيطة بالمعبر مكتظة باللاجئين حتى أنه لا يوجد موطئ قدم على مسافة كيلو متر من البوابة الحدودية، الحشود تتدافع باتجاه البوابة الحدودية التي بدأ على وجوه موظفيها الدهشة من الحشود الغير متوقعة خصوصاً مع اقتراب القصف الروسي الذي كان يلوح بالأفق حينها، وخطورة الأوضاع في داخل سوريا.
 

لا ينزح المرء بملئ إرادته فلا شيء يعوضه عن بيته أمنا واستقرارً وكرامة، والخيمة وإن كانت قصراً تبقى خيمة، والبيت وإن كان بلا سقف فهو بيت

في مطلع آذار/مارس 2015 أغلقت الحدود بشكل تام أمام المسافرين وبقيت مفتوحة أما الحالات الإنسانية الحرجة، حتى أن طرق التهريب التي كانت ميسرة بغض الطرف عنها باتت تكلف أرواحاً ليست باليسيرة، فالرصاصة التي تنطلق من بارودة حرس الحدود باتت محسوبة ولا تستقر إلا في رأس هارب من الموت.
 

الجموع متنوعة؛ أطفال ونساء وكبار سن، ومن مختلف مناطق سوريا، مضى على غربتهم ما مضى، وأقل واحد فيهم تاه به الزمان عاماً على الأقل، أما البقية فتاهوا من الأيام والشهور ما تراكم ليشكل في واقعهم حاجزاً صعب الاختراق نحو الوطن.
 

حياة اللاجئ قاسية قساوة البرد والحر الذي يداعب خيمة مهترئة، ترتجف بارتجاف ساكنيها في ليالي الشتاء شديدة البرودة، وتعرقهم أيام الصيف متوهجة الحرارة.. فكل ما يحيط باللاجئ في مخيمات اللجوء ينزع منه كرامته، حتى أدق التفاصيل؛ دورات المياه التي لا تعطي خصوصية لمرأة ولرجل.
 

لا ينزح المرء بملئ إرادته فلا شيء يعوضه عن بيته أمنا واستقرارً وكرامة، والخيمة وإن كانت قصراً تبقى خيمة، والبيت وإن كان بلا سقف فهو بيت، وهذه من مسلمات اللاجئين ومن دروس اللجوء الأولى التي يتعلمها أي لاجئ حتى تصل حد المسلمات لديه
 

يتهافت الناس نحو الشريط الحدودي، ليس تقديساً لسايكس بيكو، بل ليتخلصوا من آلام الغربة واللجوء التي لحقتهم، فالإنسان لا يفقد أكثر مما يفقده على حدود الوطن، على حدود الأرض التي تفهمه ويفهمها، فالغربة ليست غربة الجسد والمكان – وإن كانت لكثيرين كذلك – ولكنها غربة الروح، فاللاجئ حتى وإن بدا جالساً على كرسي فإنه لا يجلس إلا على حقائبه. لم يكن يوماً مرتاحاً حيث كان، وكأن المدن التي يسكنها محطات ينتظر فيها قطاراً لا يدري متى يأتي
 

مشهد المعبر أشبه بمشهد من مشاهد الحج الأعظم في عرفات، مشهد مهيب وجموع غفيرة والكل يسأل الله أن لا تطلع شمس العيد إلا وقد منّ الله عليه بأن شم هواء الوطن، فالعيد بات عيدين ، العيد والعودة، بعض اللاجئين توقفت به الأعياد حين تجاوزوا حدود الوطن إلى الغربة، وها هم يأملون أن يعود العيد من جديد.
 

يتحين اللاجئ الفرصة لكي يعود بعد أن خاض غمار الغربة، وخاض حروبها الكثيرة، والغربة تغزوا اللاجئ بكل تفاصيل حياته المادية والمعنوية، تبدأ من السكن، لتنتهي بنظرة من حوله ونظرته لذاته التي نزحت وتركت روحه في بيته هناك، حين تقابل لاجئاً ستشعر أنه فقد جزءاً عزيزاً من ذاته أودعها منزله وزواياه التي يحب أملاً في عودة قريبة
 

أبو أحمد، عجوز ثمانيني يتكيء على حفيده بخطوة و على عصاه في الخطوة التالية لم تكن أمينته إلا أن يرجع ليلفظ آخر أنفاسه في بيته – ولو كان ركاماً – بعد أن سلبت منه الغربة ما وفره من صحته لكبره، وأم هاني التي علقت مفتاح بيتها بحبل تدلى من رقبتها لتعبر عن حقها في العودة وتعيد فصلاً علق في ذاكرة طفولتها من مشاهد النكبة الفلسطينية باتت هي بطلته اليوم، وهناك على صخرة بعيدة تجلس فتاة عشرينية تعبة أبت إلا أن تعود على الرغم من أنه لم يبق على وضعها إلا أياما معدودات تريد أن يتنفس ابنها هواء الوطن قبل أن يجرع أنفاس الغربة.
 

لم يعبأ العائدون بحال بيوتهم ومنازلهم التي أصابها القصف ونالت منها النيران، ولم يلقوا بالاً كبيراً للأوضاع الخطرة هناك ما بعد الحدود، فهم لم ينقطعوا يوماً عن الوطن وأخباره، كان الزوج حين يلجأ إلى النوم هرباً من يوم ثقيل من أيام الغربة يهمس بأذن زوجته: تصبحين على وطن فترد عليه: لا يوجد أحد ينام ليستيقظ فيجد الوطن ينتظره.
 

الوطن له وقع على النفوس أقوى من جاذبية القمر على الشواطي، لا يكتفي بأن يحدث مداً وجزر ولكنه يحدث تيارات تدفع الدفين من المشاعر إلى السطح

الوطن يحتاج أن نعود إليه، الكل كان يحلم بالعودة؛ حتى الطفل الصغير إذا استعصى عليه أمر أو عجز أن ينال ما يريد ضمه إلى قائمة أحلامه المقدسة إلى جانب العودة للوطن
 

على الحدود الكل يلهج بالوطن، الكل متلهف ليروي لمن سيقابل في الداخل كيف أن حياة الغربة واللجوء أقسى حتى من الصواريخ والبراميل المتساقطة من السماء على البيوت والأحياء، في الجموع يخاطب المرء من جاور ليمر الوقت بسرعة فالانتظار قاتل، والانتظار طويل خصوصاً لو كان الشخص ينتظر عظيماً، فكيف إذا كان ينتظر لقاء الوطن.
 

لن تفتأ تلحظ مشاعر متناقضة كلما اقترب العائدون نحو الوطن.. فالوطن له وقع على النفوس أقوى من جاذبية القمر على الشواطيْ لا يكتفي بأن يحدث مداً وجزر، ولكنه يحدث تيارات تدفع الدفين من المشاعر إلى السطح
 

رجل لم يستطع أن يخفي دمعته على أحبائه الذين فقدهم وهو في الغربة، وآخر بدت عليه علامات التوتر والانفعال كلما اقترب فالعودة بالنسبة له هي رحلة تقصي آثار أهله الذين انقطعت عنه أخبارهم منذ ما يزيد عن ستة أشهر مذ قصف الطيران قريته، وأخرى تبرق عينيها شوقاً وحنيناً لخطيبها الذي تقدم لخطبتها عبر سكايب منذ شهرين ولم تره سوى عبر كاميرات الجوال والحاسوب.
 

شيخ سبعيني ما إن وطئت أقدامه تراب سوريا وتأكد من موضع قدمه حتى نظر وراء ظهره متمتماً "غُري غُري.. يا غُربة غُري غيري.. فلا عودة لكِ ثانية".. مضى الشيخ وخلفه جحافل العائدين كطوفان بشري نحو الوطن
 

معبر باب الهوى الحدودي 5/9/2016
 

"قرار بالسماح للاجئين بزيارة أهاليهم داخل سوريا فترة عيد الأضحى، والعودة خلال شهر ونصف"
سنة مضت وفرصة جديدة للعودة، وقوافل العائدين للوطن في ازدياد حشود أخرى تتجمع ثانية وتتجه نحو الوطن
سيبقى الوطن ينتظر أبناؤه، وسيبقى اللاجئون ينتظرون "مواسم العودة للوطن"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.