شعار قسم مدونات

لاجئة رحم!

blogs - refugee

الساعة الرابعة وبضع ليال من مطر الشتاء المتواصل، وصلت إلى المدينة البارحة مساء ولم أحظ سوى بثلاث ساعات من النوم القلق! الخروج من المنزل في هذا الوقت وهذه الظروف بحد ذاته فكرة أقرب للجنون، فكيف إذا كان ذلك في دولة أوروبية!
 

متجهة إلى منزل صديقتي وبالكاد أستطيع رؤية الطريق من زجاج السيارة وأضواء الطرقات الخالية الممتزجة مع قطرات المطر! أمام إشارة المرور الحمراء وتحت وقع دقات قلبي المتسابقة مع المطر أتمتم بالمعوذات وأذكار الصباح، راجية منه سبحانه أن يكون يوما يسيرا لا عسر فيه.

وصلنا إلى المطار العسكري، وعند الباب الرئيسي استوقفنا الأمن العسكري واقترب أحدهم من نافذتي: نعم، ماذا تريدون؟ أخبرته بكل ثقة لماذا نحن هنا، ومن أرسلنا. بعد عشر دقائق من الاتصالات عاد بورقة بيضاء طبعت عليها أسماء من بينها أسماؤنا، وقال عليكن التوقيع هنا وتوثيق وقت الدخول.
 

مضى ما يقارب ثلاث سنوات بيد أنه ما زال يزعجني ويوترني الزي العسكري حين ألتقي به.

فعلنا ما طلب، ففتح لنا الحاجز فدخلنا، وأمام إحدى الصالات استوقفتنا مجموعة من العساكر المدججين بالسلاح وهم يشيرون إلينا: من هنا، لا أعلم لم أرتجف قلبي عندما رأيتهم، أكان بردا، رعشة مطر، أم توترا؟

"مضى ما يقارب ثلاث سنوات بيد أنه ما زال يزعجني ويوترني الزي العسكري حين ألتقي به".

قلت بلغتهم: عمتم صباحا، أين صالة الاستقبال؟ فردوا التحية بابتسامة عريضة توحي أنهم متفاجئون وسعيدون كيف أن أنثى محجبة تتحدث لغتهم وبثقة.
ردوا: شكرا، أهلا بكن، تفضلن من هنا.

خلف ذلك الجدار كانت أحلام وآمال العشرات من اللاجئين السوريين والعراقيين واليمنيين قد حطت رحالها هنا في إحدى جزر اليونان، عيون فيها انكسار، وجع، وأمل.
 

أطفال بعضهم يلعبون ويلهون بالهدايا التي قدمت لهم ويأكلون الحلوى ويشربون الحليب، وآخر جالس على المقعد هديته بيده وهو في سكتة من أمره! صبايا محجبات في مقتبل العمر يغطي الخجل وجوههن، نساء تخجل من نفسك حين تنظر إليهن! مصاب مشلول الأرجل وآخر مسن على مقاعد متحركة، أنين بعض المرضى وبكاء مواليد! تجمدت للحظة في مكاني.. من أين أبدأ؟

"بتطلع الشمس هون ولا لأ؟ بسهولة فينا نتعلم اللغة ولا صعبة؟ يعني رح يحطونا بكامبات ولا حيعطونا بيوت لحالنا؟ الله يوفقك قليلن إنو بدنا يحطونا نحن العيلتين جنب بعض؟ بعد قديش فينا نكمل دراسة؟ يعني كيف الحياة هون؟ مبسوطة إنتي؟".

"بيقدر الواحد يشتغل ولا لأ؟ هلأ نحنا الشباب رح يعطونا كل واحد بيت ولا رح يحطونا ببيت واحد؟ صارت الساعة 6 الصبح وما في ضو! آنسة "بتعرفي بس سمعتك عم تحكي شامي والله قلبي فرفرح". الله يوفقك يا رب والله "فائلتينا" وعشرات من أسئلة الخوف من المستقبل المجهول و لأمل بتلك القشة التي يتعلق بها الغريق!".
 

وفي خضم العمل اقترب نحوي رجل يرتدي بزة رسمية حوله جمع من الرجال ببزات عسكرية ذات طابع مختلف، بجانبه امرأة ترتدي نفس البزة العسكرية المميزة وعلى أكتافها صف من الرتب العسكرية، أعرفها من تكون لكنني أجهله، حيث إنها قدمتني له ونسيت أن تقدمه لي.

 تبادلنا أطراف الحديث، منها الشخصي ومنها عن أوضاع اللاجئين الذين وصلوا للتو وعن حالتهم الصحية ومتطلباتهم، لاحظت أثناء حديثنا أضواء كاميرات هواتف محمولة تلتقط صور اللقاء بيد أنهم كانوا قد أخبرونا أن الإعلام مغيب عن التغطية عمدا! علمت لاحقا أن هذه الشخصية هي وزير الداخلية!

لفت نظري أثناء عملنا امرأة مدنية أجنبية جلست على الأرض مع شريكها تلاعب الأطفال، لم تأبه بنظافة الأرض أو نظافتهم بل كان جل همها هو الترويح عن الأطفال وإخراجهم من رهبة الجو العام.

بعد ساعات من العمل تم فيها تسجيل الجميع وتبصيمهم وتصويرهم وفحصهم طبيا بدأ ترتيب نقلهم من المطار إلى وجهاتهم، بصفتي مترجمة وطبيبة طلب مني مرافقة مجموعة المرضى المنتقلة للمستشفى حيث تم نقلهم بعناية كبيرة في سيارات خاصة.

وفي صباح هذا اليوم دخلت أحد أفلام (Fast and Furious)، رجل أمن يقود السيارة بسرعة هائلة وبين يديه جهاز لاسلكي لا يصمت، من شدة صوت الإنذار شعرت بأنه كان يخرج من أذني لا من السيارة! أمامي سيارات تتحرك في جميع الاتجاهات وفي ذروة ساعات العمل في العاصمة وكأننا على مسرح من الدمى.

أعترف بأنني شخصية تحب المغامرات وسباق السيارات لكنني أكره أن ترتبط بالخوف والهرب من الموت.

برفقتي امرأة حامل بالكاد أستطيع مراقبتها وتهدأتها من حالة الغثيان والإقياء، أفرغ كيسا من الأوراق وأتأهب تحسبا لأي طارئ، وبين أيدينا طفلة ذات ثلاث سنوات تحاول أن تلهو وتكتشف ما حولها وكأنها في عالم "سبيستون" رغم الاحتقان والسعال اللذين يصارعهما جسدها النحيل!

وفي وسط هذه الضوضاء وحالة التوتر والتأهب تذكرت بعض اللحظات التي عشتها في غوطة دمشق، أعترف بأنني شخصية تحب المغامرات وسباق السيارات لكنني أكره أن ترتبط بالخوف والهرب من الموت كأن تعبر من منطقة إلى أخرى بسرعة فائقة وبدون أضواء السيارة وفي عتمة الليل كي لا يراك "القناص" فيطيح بك وبسيارتك أرضا!

ومع فارق الظروف لكن جنون اللحظة بدا لي واحدا! اشتد الصوت داخلي.. كيف دار بي الزمن وأصبحت هنا وفي هذه اللحظة؟ ماذا لو كان قدري كقدر إحداهن؟ كيف سأنظر للعالم من حولي؟
كيف سأنظر لابنة بلدي التي تستقبلني وتراني بحالة الضعف هذه؟ رحمتك يا الله.. كيف وصل الحال بشعبي إلى هذا الحد؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.