شعار قسم مدونات

شهداء البنغال في زمن التقوقع الحرج

Supporters of Jamaat-e-Islami, a Pakistani religion-based political party, shout slogans as they protest the Bangladesh government's execution of its leaders in Lahore, Pakistan November 29, 2015. REUTERS/Mohsin Raza

لم يمر على المسلمين زمن أقسى من هذا الزمن الذي تمر به الأمة في هذه الفترة الحرجة من تاريخها، فقد سبق لها أن مرت بحالات ضعف وتشتت وتمزق، بل وفقدت أقاليم لم نستطع نسيانها لكنها حافظت في كل مراحل إدبارها وتمزقها السياسي والاجتماعي على حالة من التوحد العاطفي جعل المنابر في الشام تعج بالدعاء والتجييش لأهل بغداد أو قرطبة في قديم الزمان.

 

بل إن التاريخ القريب للأمة كان يشهد حالة من التوحد والتعالي على الحدود المصطنعة، حيث كان أحرار الجزائر والمغرب وتونس يجدون المأوى في دمشق والقاهرة وبغداد، وكان أهل الجزائر يتواصلون مع أهل اليمن في حالة جماعية فريدة لمقاومة الاستعمار ومخلفاته.

 

صدى استشهاد سيد قطب وإخوانه هز أركان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، وحرك الشعوب والقيادات التي حاولت إيقاف ضباط الهزائم عن الفعلة الشنيعة

وعلى هذه الرؤية الجامعة قامت اليقظة الإسلامية الحديثة من لدن جمال الأفغاني ومعاصريه حيث دعوا لـ"الجامعة الإسلامية" التي طورها الإمام البنا في خطاب نهضوي موجه للأمة التي تكررت في رسائله أكثر من مئتي مرة.

 

وقد حاول المصلح الجزائري مالك بن نبي أن يطور تلك الفكرة الوحدوية إلى حالة "كمنولث إسلامي" فالإصلاحيون المعاصرون لم يتفقوا على شيء اتفاقهم على الوحدة الإسلامية، وترابط الأمة ذات الجسد الواحد. وليس هذا من بدع المصلحين ولا شعورا منهم بضعف الأمة وهوانها فحسب، بل النصوص الداعية إلى ذلك مشهورة معلومة.
 

وإن كانت حالة الوحدة السياسية تعذرت على الأمة التي لا يزال حلم الخلافة الواحدة من أهم أحلامها المنتظرة، فإن الوحدة العاطفية بقيت حقيقة تعيشها الأمة قبل حالة التقوقع التي هيمنت في السنوات الأخيرة، وانشغال كل قطر بمعضلاته.
 

حين نقرأ في أدبيات الستينات نجد صدى استشهاد سيد قطب وإخوانه هز أركان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، وحرك الشعوب والقيادات التي حاولت إيقاف ضباط الهزائم عن الفعلة الشنيعة لكن سبق فعلهم كل تدخل لترقى روح سيد إلى بارئها وينال الخلود المستحق في الذاكرة الإسلامية.

  

وبعد سيد قطب كانت أركان الأمة تهتز دائما للشهداء في كل مكان من فلسطين وسوريا إلى ليبيا وغيرهم من البلدان، التي كانت ذات علاقة دائمة بالسماء من خلال المرتقين إليها في زنازين الطغاة أو على مشانقهم أو في ساحات الوغى حيث تدافع الامة أعداءها، وتحرر بلدانها.

 

لكن بريق ذلك التوحد العاطفي خفت في السنوات الأخيرة وما ينبغي له ذلك لأن أعداء الامة يعيشون حالة انصهار تستدعي اليقظة والحذر الواعي، وقد آلمني من مظاهر هذا التقوقع ما يحدث في بنغلاديش ذلك البلد الإسلامي الكبير الذي اقتطع قسرا من باكستان حيث لا زال للمشانق فيه عمل دؤوب وضيوف كبار.

 

ونكتفي بحالة الشيخ الدكتور مطيع الرحمن نظامي الذي ارتقى شهيدا يوم 10 مايو 2016، ولحقه قادة آخرون الأسبوع المنصرم، والأمة وأعلامها في حالة ركود، وصراع على هوية جدلية أقرب إلى العدمية منها إلى شيء محسوس، والمؤلم في المشهد ثلاثة أمور:

 

الأول: أن الشهيد مطيع الرحمان نظامي ذو الخمسة والسبعين عاما ينتمي إلى جيل الوحدة المنشودة، وقد كان هذا واضحا في رسالته الرائعة التي خلدها الكاتب عبد الغفار في مقال منشور على الجزيرة نت، وقد كان الشهيد يظن أن الأمة لا تزال كما عهدها أيام شبابه وبداية كهولته تنتفض نصرة للشهداء واحتجاجا على الطغيان.
 

خبت الوحدة العاطفية بين الأمة الإسلامية وخفتت في السنوات الأخيرة فيما يعيش أعداؤها حالة انصهار تستدعي اليقظة والحذر الواعي

ونقل عنه عبد الغفار أنه يشكر العالم الإسلامي وعلماءه على الوقوف معه قلبا وقالبا، وأن يدعوا له بقبول الشهادة، وكان هذا هو المفترض وهو ما عهد عليه الشيخ الأمة لكن للأسف لم يلق الناس بالا لهذا إلا ما كان من انفعالات هزيلة في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، وبيانات للاتحاد تدعو الحكومة المجرمة للتراجع عن أحكام الإعدام من غير أن يأخذ الأمر بعدا جماهيريا يحشد الامة ويجدد عهدها بمعاني العزة التي كانت بادية من رسائل "الوداع الأخير".

 

الأمر الثاني: أن الاتهامات الجائرة كانت في أبعادها انتقاما من تاريخ الوحدة الإسلامية الذي حرصت عليه الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية، فالتهم الملفقة كلها تدور حول تاريخ انفصال بنغلاديش عن باكستان سنة 1971م، واتهام قادة الجماعة الإسلامية بالوقوف ضد التشرذم والانفصالات، وزاد الادعاء السياسي تهما أخرى تتعلق بالإبادة الجماعية، وهي كلها تهم من عالم الخيال كما قال الشيخ الشهيد مطيع الرحمن.

 

الأمر الثالث: في إحدى الجامعات الإسلامية المشهورة بوفرة طلابها وتنوع جنسياتهم الإسلامية، حضرت تأبينا خافتا للشهيد وإخوانه كان في أحد زوايا المسجد، و98 في المئة من الحضور كانوا من تلاميذ الشيخ وأتباعه من البنغال، والبقية التي لاحظت حين جئت بالصدفة مع بروفوسير آخر من السودان، ولم يكن الكلام مسموعا لأن مساجد الأمة صارت تضن على الشهداء بالمنابر ومكبرات الصوت. ولله الأمر من قبل ومن بعد!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.