بيدَ أنها تُغري أنْ يُدليَ أحَدُنا بِدلوِهِ وَيطرَحَ رأيَهُ ويَرشِفَ من نَبعٍ لطالما صُنّفَ على أنهُ "مُحَرّم" وَخَطير، تَماماً كآلاف الشُرُفاتِ المُطِلّة على عُقَدِنا وتناقُضاتِنا، ممنوعٌ علينا ارتيادُها، ممنوعٌ علينا تَلَمُّسُ قِرميدِها العَتيق، مَمنوعٌ علينا البوحُ بِوِجهَتِها السِرّية.
ليسَ من الشَرَفِ من شيءٍ أنْ نَستَلَّ سكاكيننا وَنُمارِسَ الذَبحَ بهذهِ العَشوائيّة التمييزية القَذِرة. |
جريمَةُ الشَرَفِ في مَلَكوتِنا العربي أحاديّةُ الجانِب، يَقتَرِفُها في الأعَمَّ الأغلب طَرَفٌ يَنجو في خِتامِ المُسَلسَلِ الدَنيءِ من العقُوبة، مُثقّلاً باللعنات المؤبّدة، طَرَفٌ أحسَنَ صياغَةَ بُنودِ "قانونِ الخَطيئة" العُرْفي فَجَعَلَهُ – بإيحاءٍ من سَطوةِ الوَزنِ الرُجولي المُتَفَرّدِ – قانوناً نُخبَوياً قائِماً على الانتقاءِ والتمييز، يَمنَحُ بَركاتِهِ للزُناةِ وَيُرَتّبُ الموتَ على الزواني، لا لِشيءٍ سوى أنَّ مفهومَ الوِصاية والقيمومةِ اُسيءَ تَطبيقُه واستعمالُه، فهل كانتْ "ثيميس" حاملةَ ميزان العدل الإغريقيةُ ضَريرةً حَقاً؟ وَهل كانتْ رَكيكةً الى هذه الَدَرَجة؟
فهي الجريمةُ الوَحيدَةُ في التاريخ التي يُستَهدَفُ فيها "جِنسٌ" بِعينِهِ ويُستثنى الآخر، كونُها لَصيقةٌ بالإناث دونَ الذُكور، وتُكالُ فيها التُهَمُ جِزافاً على أساسِ الشَكْ الراجح والظُنون الغالِبة، فأغلَبُ ضَحاياها كُنَّ لا زِلنَ عذراواتٍ بَعدَ تَنفيذِ الإعدام الاعتباطي، بِشهاداتِ الطِبّ العَدْلي، ويُصادَرُ فيها حَقُّ المُتَهَمِ في الدِفاعِ عن نَفسِهِ وِفقَ لائِحة اتهامٍ جاهِزة مُعدّة سَلَفاً، عادةَ ما يَضَعُها "ذَكَرٌ" هوَ في حقيقتهِ الخَفيّة مُجرّدَ "زيِرِ نِساء" اِرتَكَبَ ذاتَ الجُرمِ مِراراً دونَ رادِع، مُستفيداً من نِفاقٍ اجتماعي عالي التَردّدْ.
أنفُسَ القواريرِ العَفيفة أبهَظُ مِنْ كُلّ غِربانِ الشكُوكِ التي تَنْبِشُ في قُحوفِ جَماجِمِهِم. |
لِم لا ونحنُ مُذْ داحِسَ والغَبراء وَحربِ البَسوسِ كياناتٌ ذُكورّيةٌ جَلِفة بِجَدارةٍ، نُسَلّحُ أبناءنا الذُكور بِكُلِ مَخالِبِ القَمعِ وأدواتِ التَسَلُّط من تفضيلٍ وتسهيلٍ وَتدليلٍ وَتخويل، وَنزرَعُ في أرواحِ بناتِنا انكساراتِ الأمَةِ وَهوانَ الجواري وَخُضوعَ "الغيشا"، وَنُلَقِنُهُنَّ قاموساً سَميكاً من مُفردات الذُلّ والعُبودية، ثُمَّ لا نَلبَثُ بِمُنتهى التلقائيّة أنْ نَلِغُ في شَرايينِهِنَّ – كأيِ جِراءٍ ظمِئة – بِوشايةٍ حَقيرة أو نَبأ فاسِقٍ أفّاك، تُساقُ إحداهُنَّ الى جزّار "الشَرَفِ" المُتعَجْرِف ولِسانُ حالِها يَستَذكِرُ قولَ الشاعِرِ باكياً : "أنا أنثى، أنا أنثى، نَهاراً أتيتُ إلى الدُنيا، وَجدتُ قرارَ إعدامي، ولم أرَ بابَ محكمتي، وَلمْ أرَ وَجهَ حُكّامي".
فنحنُ العَربُ وخِلافاً لِغيرِنا بَطيئونَ في المُراجَعة والنَقدِ الذاتي، وسَتُقَدّمُ المَزيدُ من القَرابينُ الحيّة على مَذبَحِ "الشَرَف" قَبلَ إدراكِ أصحاب الأدمِغة البَليدة والحَميّة الغَبيّة الفارِغةِ أنَّ شَرَفَ اليعاريبِ غالٍ ثَمين، لَكِنَّ أنفُسَ القواريرِ العَفيفة أبهَظُ مِنْ كُلّ غِربانِ الشكُوكِ التي تَنْبِشُ في قُحوفِ جَماجِمِهِم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.