شعار قسم مدونات

مدونة مسروقة!

blogs-سرقة
نعم، وبلا أدنى خجل اخترت ذلك العنوان، لأن كل ما سأورده في هذه السطور، ما هو إلا نقل عن أشخاص دون إذنهم، وسرد لبعض تفاصيل حياتهم، دون أن يعلموا، ولست الأول في ذلك، ولا أعتقد أنني سأكون الأخير.
بعض من قمت بسرقتهم، هم من أولئك النفر الذين قد يرسلونك للسجن بدعوى أمام محكمة، هم من وضعوا قوانينها، وهم من يقررون الحكم فيها، إنهم من أولئك الذين يسافرون بطائرات تحلق بأجنحة الشعوب المكسورة، لكنها مع كسرها تطير عاليا، لا تتعب، وعندما تبلغ ذروتها، ستلفظهم، لتهوي بهم ريح الصحوة، أو تخطفهم طير فعالهم.
وهم من أولئك الذين جلسوا على كراسي الحكم وخلف مكاتب المسؤولية، أجسادا بلا روح، وأقلاما بلا حبر، ثم امتصوا من دماء "الغلابة" ما يقيهم مصيبة الموت ويهبهم الخلود … نعم، لقد عرفوا أن دماء الشعوب لا تموت، ولكنهم جهلوا أنها أيضا لا تخلد في جسد مصنّع خارج الوطن، ثم اتخذوا من سواد قلوبهم حبرا تنفثه أقلامهم _الوحيدة التي لا يجري عليها مقص الرقيب_ أحكاما بالسجن والإعدام … والقتل بلا ذنب.
وإمعانا في السرقة، فقد اختلست مشاهد من حياة فئة أخرى، ثيران على هيئة بشر، كلما رأوا اللون الأحمر، ازدادوا هيجانا وعتوا، فلم يبق أمام ضحاياهم سوى تغيير لون دمائهم؛ لعلهم ينجون ببقية من حياة، ولعل حمائمهم التي عبست بوجهها الدول، وتولت عنها رقاب الإنسانية، لعلها تعود _ولو متعبة_ إلى سمائها الأولى، التي تعلمت فيها الطيران والتحليق بلا أقفاص، قبل أن يرهبها الرصاص.
ولو انتقلنا لسرقات الطبقة الوسطى، التي شكلت درجات السلم الذي صعده من أسلفت السرقة منهم، لرأيناها تملأ أكياس اللصوص أمثالي، فهذان خصمان اختصما في كرسيهما، وهذا أخ طوعت له نفسه قتل أخيه في الوطن فقتله، فأراه غراب أشقر ذو عينين زرقاوين و"طاقية" تقبع بمؤخرة الرأس كيف يدفنه، بل وعلمه البكاء عليه! وتلك قبائل تعيش في دولة واحدة، بعضها مدعوم من دب كبير، يهيمن على شرق الغابة، والآخر يحتمي بحمار وفيل، يسيطران على الطرف الغربي منها، وذلك قرد وعده الثعلب بمنصب يرضيه، بعد القضاء على الأسد، فنصّبه مسؤولا عن الطيور، ليصدر مرسوما يقضي بمنعها من قول أي كلمة، أو تغريد أي لحن، إلا بإذن مسبق، فصارت الغابة موحشة، خالية إلا من صوت الغراب الذي استثناه المرسوم الرقابي!
ولن أخفيكم سرا، فقد سرقت أيضا من تلك الفئة المستضعفة، ولكن قلمي أصيب بالحمى، وعجز عن تدوين ما سرقته، حتى أخذته إلى طبيبٍ فكريّ، ليكشف لي مرضه، ويؤدي لي غرضه، ففاجأني طبيب الأقلام بنظرة من فوق عدسات نظارته، كتلك التي كانت ترتسم على وجه جدي _رحمه الله_ حين كان يريد توبيخي، وأومأ برأسه إلى ورقة صغيرة وحيدة علقها على جدار عيادته، مكتوب عليها: "اللص العفيف … لا يسرق من الضعيف"، يا الله !! إذا كان ريقي أنا قد جف، فكيف بالقلم الذي أخبرتنا معلمتنا في الابتدائية أن حسه المرهف فوق ما نتخيله ؟

أنا لم أسرق من الضعيف الرغيف، سرقت منه لتحسوا به، وتعطوه رغيفا آخر، فاللص العفيف لا يسرق من الضعيف الرغيف
لا بأس، العفة في اللص صفة جيدة، يرضيني ما سرقته، سأكتفي بفنجان قهوة دعاني له هذا الطبيب الماهر، ثم أغادر، وأطبع ما كتبت، لأنشره غدا أو بعد غد، لكن مهارة الطبيب وذكاءه كان فوق تصوري، لماذا؟ لأنه أجلسني أمام التلفاز، وأخذ يقلّب المحطّات، واحدة تلو الأخرى، صورة… وميض… صورة … وميض … طفل أحرقته القنابل التي ألقتها طائرات كان يغني لها في بداية طفولته: "طيارة طارت بالجو، فيها العسكر فيها الضو" … وميض … مجموعة من الناس كانوا يودعون أقاربهم عند بوابة المطار، وآخرون يستقبلون عزيزا عاد بعد غياب، فجر جاهل نفسه بينهم طالبا شهادة، وعده بها عميل فصّلوا له لحية على مقاس حقدهم، فصار العائد مسافرا، وعاد المسافر إلى وطنه الأم (الأرض)… وميض… جنود بلباس منزوع اللون، يقتحمون مسجدا ذا قبة ذهبية، داخل سور كبير، ويعتدون على من فيه.
 
سألت الطبيب عن اسمه، فأجابني: هو الأقصى، لكنه أقرب إلينا من نبض القلب… وميض… فقراء يفترشون الأرض في دولة تمتلئ بالذهب الأسود… وميض… شباب يكتبون على حائط حيهم كلمة "حرية" بدماء أصدقائهم الذين قتلتهم قوات الشرطة… وميض… مسؤول عالمي يعبر عن قلقه، في مشهد حفظته مثلكم، فطلبت من الطبيب أن يغيره… وميض… أشلاء… وميض… إشارة رابعة… وميض… محاولة انقلاب… وميض أتى هذه المرة من تلك النظارة السميكة على محيا الطبيب… ليعيدني مرة أخرى لتلك الورقة، قائلا بتهدج: ليس كل الكلام يكتب بالحبر، أيها اللص العفيف!
ومع وقع كلماته تلك، كانت الدهشة تملأ كياني، فقد عدت لتلك الجملة مرة أخرى: "اللص العفيف … لا يسرق من الضعيف" وبجانب العبارة علق "رغيفا" من الخبز … أجل، قلمي لم يمرض من السرقة، بل كان بحلقه غصة مما رآه، أجل … أنا لم أسرق من الضعيف الرغيف … سرقت منه لتحسوا به، وتعطوه رغيفا آخر…. "فاللص العفيف لا يسرق من الضعيف الرغيف"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.