شعار قسم مدونات

حلوة مرة وصعبة جداً.. الأنسنة!

blogs - humanity
قبل زهاء ثلاث سنوات لم أكن لأعرف الكثير عن المصطلح إعلامياً، ورغم أنني كنت أوظفه في بعض كتاباتي، إلا أنني لم أوظفه بالشكل السليم والمنضبط وانطلاقاً من فهمي له كمصطلح إلا بعد أن اجتمعت والدكتور جان كرم -كما أظن-.

لقد أدخلتنا إلى عالم وارفٍ فارهٍ يا دكتور كرم، إلاّ أنه عالم صعب يحتاج إلى الخبرة والمراس، يحتاج الصبر والأناة

والدكتور كرم باختصار، واحد من رواد مهنة الصحافة في العالم العربي، ولا أبالغ إن قلت إنه سبب رئيس في تأهيل مئات الصحافيين والأخذ بأيديهم نحو البداية السليمة لمهنة الإعلام.

حدثني الدكتور وزملائي الخمسة وعشرون عن الصحافة كثيراً، حدثنا عن الخبر وكأنّا لم ندرس عنه في كليات الإعلام شيئاً من ذي قبل، حدثنا عن الحدث وكيف يصنع، عن المقالة وكيف تكتب، عن التقرير وكيف يكون أعمق وأغني وأوسع.

حدثنا الدكتور جان عن أمور كثيرة، وقضايا متنوعة لم نكن لنتصور أنّا سنخوضها يوماً في عالم الصحافة، غير أن أهم ما حدثنا عنه، والذي سأظل أذكره ما حييت "الأنسنة"، كيف نأنسن قضايانا ياسادة، كيف نأنسن قصصنا وكتاباتنا وحكاياتنا وحتى أحاديثنا.

حدثنا الدكتور جان عن كل هذا، ومن ذلك الحين وأنا أشطب كثيراً مما أكتب، وأبقي على قليل من الكثير الذي كتبته، منذ ذلك الحين والأنسنة أمر طبيعي، يحل ويحضر ويطرق كل موضوع وقصة أكتبها.

لقد أدخلتنا إلى عالم وارفٍ فارهٍ يا دكتور كرم، إلاّ أنه عالم صعب يحتاج إلى الخبرة والمراس، يحتاج الصبر والأناة، عالم يتطلب منك أن تقف على كل حرف تكتبه، وكل كلمة تسطّرها، وكل عبارة تتشكل معك، لتراجعها وتدققها مرات ومرات. هل هذا الهراء الذي أكتبه ضرورياً، أم أنّا نحتاج لأن (نكبه) كما كان يقول الدكتور الفاضل. (نكبه: أي نلقي به ونستغني عنه، كما يحكيها الدكتور كرم بلكنته اللبنانية).

ثم ها نحن يا دكتور جان نقف على مفترق طرق كل تفرّع منه أطول مدى من الآخر، نجلس اليوم لنفكر بالأنسنة، وكيف نروي قصصنا ومقالاتنا بطريقة إنسانية، ونحن نعيش في عالم أهم ما يفتقر إليه "الإنسانية".

صحيح أن الأنسنة كست موضوعاتنا وكتاباتنا حلة حلوة بهية أنيقة، صحيح أنها زادت من إعجاب القرّاء بها ومن إقبالهم عليها، صحيح أنها أضافت إلى القصة قيمة على قيمتها، صحيح كل ذلك وأكثر.

ولكن؛ أليس من الترف أن نفكر في كل كلمة نكتبها، وعلى أي جوانب من جوانب الإنسانية تضيء، وكيف ستَذرف لها الدموع والعبرات، وكم سترِق لهما من الأفئدة، ونحن لا نجرأ عن أن نكون إنسانيين في أنفسنا؟!

أنسنوا قصصكم، حكايتكم، مشاهداتكم، لا تسمحوا للعلل بأن تسلب عقولكم، ولا تفسحوا المجال لليأس بأن يتسلل إليكم

أليس من الترف أن أروي قصة طفل قضى تحت أنقاض منزله وهو يحتضن واحدة من ألعابه البائسة بصورة إنسانية، دون أن أن أفكر بالإنسانية المتشظية التي قادته إلى هذه الهاوية؟!
أي إنسانية يمتلكها أولئك الذي يمطرون الأطفال بالبراميل المتفجرة، ثم يغيرون عليهم ليلاً وعلي حين غرة؛ فيسلبونهم كل جميل فيهم حتى إنسانيتهم… ثم نتحدث عن التطرف يا دكتور؟!

أليس من الظلم أن أكتب بإنسانية وحس مرهف لقاتل لا يحمل في قلبه ولو ذرة من إنسانية؟! وفي المقابل أي إنسانية وأنسنة سينظر إليها صاحب البيت المغشي عليه؟! وبأي إنسنة وإنسانية أخاطب الأم الثكلى، والطفل اليتم، والزوجة النائحة؟! كيف أشرح أنه لا يمكننا أن نحدث أناساً تخلو عن إنسانيهتم، وآخرين سلبت منهم رغماً عنهم بإنسانية؟!

كيف أشرح بأنه وعلى أهمية الأنسنة في الكتابات الصحفية، إلاّ أن نقل واقع الحال ما عاد يجدي نفعاً مع هذا العالم المريض، هذا العالم المعلول بفقد إنسانيته وبشريته؟ّ

أليس من البؤس أن لا تكون الأنسنة والإنسانية حاضرة إلاّ في بعض كتاباتنا، وفي شيئٍ من قصصنا؟! أي انفصام سيعيشه الشخص الذي يقرأ في أنسنتنا بعد أن يخرج إلى عالمنا الفجّ.
غريب كيف تكون أنسنة الموضوعات والمقالات والتقارير أيسر من أنسنة البشر أنفسهم؟!، البشر الذين يفترض بهم أن يكونوا إنسانييون بالفطرة!

ومع ذلك، دعونني أقول لكم، أنسنوا قصصكم، حكايتكم، مشاهداتكم، لا تسمحوا للعلل بأن تسلب عقولكم، ولا تفسحوا المجال لليأس بأن يتسلل إليكم، لا تغنّوا للدموع، واسكبوا الفرح على الوجع. غنّوا قصصكم وعيشيوا حكايتكم. لا تسلبوا المظلوم حلمه، ولا تتركوا للظالم فسحة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.