شعار قسم مدونات

جنوب السودان وخدعة الاستقلال

blogs - sudan
الموت، المقاومة، الثورة.. كلها أسماء ومصطلحات ما كان يفترض أن تتصدر نشرات الأخبار الآن عن ربوع وطننا الحبيب (جنوب السودان). فنحن شعبُ لا تزال مراسم الاعتماد الرسمي الدولي لدولتنا تجري علي قدم وساق، ولا تزال سفاراتنا وصداقاتنا لم تكتمل، ولا يزال أكثر مواطنينا لا يملكون الوثائق الثبوتية التي تنسبهم إلى البلد. فكثير منهم ما زالوا يستخدمون شهادات إثبات الهوية الوطنية القديمة لبلدان شتى كانوا يعيشون فيها لاجئين، ولم ير أغلب مواطنينا أرض الميعاد الكاذبة.. إذاً فما الذي يجعل شعباً لم تبلغ دولته الوليدة سن الفطام يحمل السلاح ويستنجد بالعالم من أجل إزاحة حاكم خرج من صلبه ووصل إلى الحكم باسمه؟

ببساطة وشفافية، الجواب هو أن شعبنا اكتشف في لحظة وعي فارقة أنه لم ينل استقلاله بعد، وأن الحاكم وتنظيمه الذي ورث الدولة في ما يسمى (عهد الاستقلال)، إنما هم المستعمرون والمستبدون الحقيقيون. لذلك كان على الشعب أن يعود إلى نقطة الصفر ويعلنها ثورة شاملة لن تتوقف حتى يحصل على حريته. فما يحدث في جنوب السودان الآن من قبل السلطة الحاكمة هو الاستعمار الحقيقي، ولم ير شعبنا قبله استعمارا وقهرا وذلا مثله.

فالاستعمار ليس فقط ذلك القادم من خارج الحدود. لن أضيف شيئا في وصف هذه الخدعة دولة (جنة الشوك)، فلكم الآن أن تسألوا من هم في معسكرات اللاجئين والنازحين في أفريقيا وخارجها من شعب الجنوب، اسألوهم إن كان ذلك هو ما يعيشونه أم لا.. اسألوهم إن كانوا يعتقدون صادقين أن بلادهم قد نالت استقلالها فعلاً أم لا..! 

كيف لحاكم الحركة الشعبية وزمرته أن يكونوا مخلصين لشعب لا يحترمون تراثه وتاريخه وأمجاده وإنسانيته، ويريدون أن يخلقوا له هوية جديدة مختلقة من خيالهم؟

ليس هذا مجالاً لجلد الذات، إنما هو واقع جنوب السودان وشعبه الآن أسطره للعبرة والتاريخ. فالذين يحكمون ما هم إلا مجموعه لاهثة وراء العز السلطوي، وتملّك أموال الشعب وحريته وشخصيته وإنسانيته.. فكيف لحاكم الحركة الشعبية وزمرته أن يكونوا مخلصين لشعب لا يحترمون تراثه وتاريخه وأمجاده وإنسانيته ويريدون أن يخلقوا له هوية جديدة مختلقة من خيالهم؟ 

ولسوء الحظ فإن معظم الشعوب الأفريقية وجدت نفسها بعد عقود طويلة ترزح تحت وطأة مستعمر من بني جلدتها غريب عنها، وليست جنوب السودان باستثناء، فهو مستعمر يتبنى أعرافاً وتقاليد لا تمت إلى الشعب بصلة. فبداية العهد مع هؤلاء دائماً يسودها الوئام والمحبة. القيادة والشعب متلاحمان تحت شعارات البناء والعزة والتحدي ومحاربة الفقر والجهل والوحدة والصمود والقومية، ومع مرور الأعوام تبدأ مساحيق التجميل في الزوال ويظهر الوجه القبيح كما يحدث الآن للحركة الشعبية في جنوب السودان، نظام مستبد طاغية ظالم لا يهمه من مستقبل البلد ولا شعبه شيء.

فقد نصبت الحركة الشعبية نفسها في الحكم دون استشارة حقيقية أو استفتاء للشعب. قالوا للعالم إن الشعب قد صوت للاستقلال بنسبة 99.9% من الأصوات!! جميلٌ جداً.. ثم ماذا فعل هؤلاء الحكام بعد ذلك بالشعب؟ لقد قرروا لوحدهم أي نمط حكم يصلح للشعب والبلد، ووضعوا بأنفسهم دساتير البلد التي كانوا وما زالوا يغيرونها كلما تغيرت طموحاتهم كل صباح وكل يوم. 

لقد استغل تنظيم (كبار أعيان الدينكا) سماحة وبساطة شعبنا وسخّرُوا ثروات البلد وشعبه لخدمة أطماعهم وتأمين مصالحهم ومصالح أبنائهم. لا أدري من الذي اخترع لشعبنا (خدعة الاستقلال)؟ فالدكتور جون قرنق ديمبيور نفسه وهو القائد والزعيم سنينَ طوالا لم يتحدث إلا عن السودان الجديد الواحد، ويعتز بأنه سوداني حتى مماته؛ وهو سوداني من نمولي إلى حلفا حباً وعشقاً لهذا السودان الكبير ولإنسانه ولم تكن لديه عقدة نفسية أوإحساس بالدونية. فلعل أصحاب (خدعة الاستقلال) هم الذين قتلوه..؟

ولكن وللحقيقة أيضا أقول إن بعضا من الذين وفرت لهم الظروف ظلاً على حساب الوطن من أبناء شمال السودان هم الذين قايضوا فصل جنوب السودان عن الوطن الكبير، شريطة أن تسحب الحركة الشعبية مرشحها ياسر سعيد عرمان من السباق الرئاسي الذي أوشك فيه أن يفوز؛ فسلموا بذلك جنوب السودان لقمة سائغة لتنظيم (كبار أعيان الدينكا).

هذا كله ساعد أصحاب (خدعة الاستقلال) والذين قد تكونت دولتهم العميقة في تنظيمهم السري، الذي اتخذوا له شعاراً من قديم هو: (وُلِدنا لنَحكم لا لنُحكم). والذين بدأ سلوكهم يظهر إلى العلن عبر تنظيم (مجلس كبار أعيان الدينكا)، إبان حكم سلفاكير. هذا التنظيم يمثل السلطة الحقيقية التي تصدر القرارات وتوجه الحكومة للقتل والإرهاب والفساد والعبث بمقدرات الدولة وثروتها وتبديدها على (أفراد قليلين) في إثنية بعينها، ومن ثم قهر الأغلبية من الشعب الجنوبي من أجل تثبيت هذه الدولة العنصرية..

ولا أظن أن أحدا في حاجة إلى إحصائيات عن الذين اغتالتهم الحركة الشعبية عبر هذا التنظيم، أو الذين زُج بهم في سجون وأقبية المخابرات والأجهزة الأمنية المختلفة في جنوب السودان، وذاقوا هنالك صنوفا من التعذيب لم يذقها أسلافهم في أي عهد كان. ومن هؤلاء الذين اغتالتهم أجهزة المخابرات الفريق جورج أوطو، والوزير بيتر عبد الرحمن سولي، والقائد حاتم شواي دينق، انتهاء بمحاولة اغتيال الدكتور رياك مشار. ولا أحد في حاجة إلى أرقام عن عدد الذين اضطروا إلى الهجرة هرباً من حاكمهم المفدى (سلفاكير)؟ ودونكم معسكرات اللاجئين في كل أنحاء العالم..

أي استقلال هذا الذي يسمح لشخص أو نظام حكم أن يطلق الرصاص على شعبه ويحاصره ويملأ به المعتقلات؟ 

إن هذا التنظيم (مجلس كبار أعيان الدينكا) قد نهب كل خيرات جنوب السودان بطريقة ممنهجة طيلة أحد عشر عاما حكم خلالها البلد عبر رئيسه سلفاكير منذ العام 2005. ويكفي ما قاله سلفاكير من أن أكثر من (75) مسؤولاً رسمياً يعمل في دواوين الحكومة قد نهبوا ما يزيد عن 5 مليارات دولار وذلك عندما ضايقه المانحون الدوليون للكشف عن حجم الفساد في جنوب السودان، العجيب أنه لم يُحاسبَ أحد!.. أو حقيقة لم يحُاسبِ سلفاكير أحداً. غير ذلك، فقد أقدم أقاربه في القصر الجمهوري على استخدام الأختام الرئاسية في عمليات تزوير في المستندات واسعة النطاق حصلوا خلالها على الإعفاءات والامتيازات والتسهيلات.. كل هذا يحدث في جنوب السودان.

بالله عليكم أي بلد هذا يمكن أن نعتبره ذا سيادة وشعبه لا يستطيع أو لا يُسمح له أن يفكر في تغيير حاكمه أو مطالبته بقليل من الحرية والكرامة؟ وأي استقلال هذا الذي يسمح لشخص أو نظام حكم أن يطلق الرصاص على شعبه ويحاصره ويملأ به المعتقلات؟ السؤال الآن ماذا ينتظر شعبنا من سلفاكير؟؟ فإذا كان سلفاكير يرفض تسليم السلطة لنائبه في الحزب وعمل على تدمير الجنوب عسكريا لإزاحته أو اغتياله فهل سيسلم السلطة لأي أحد من التنظيمات السياسية الأخرى أو من قبيلة أخرى؟ فهل ما زال شعبنا يؤمن بأن سلفاكير سيقدم له خيراً؟! 

والطريف أنه إذا قرر (سلفاكير) أن يفعل شيئا من الخير فإنه لا يفعله حباً، أو نزولا عند رغبة شعبنا، بل استجابة للضغوط الأجنبية، أو خوفاً من عقوبات خارجية ضده وعشيرته؛ لذلك هب شعبنا في جنوب السودان ليعلنها ثورة شعبية من أجل استقلال حقيقي وحرية دائمة، ولعزف لحن الحياة مع الشابي:

إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ
ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.