شعار قسم مدونات

الله كريم

blogs - rafah
غزة يا غزة.. كيف يمكن لكلمة من ثلاث حروف أن تختزل كل هذا الوجع وأن تحمل كل هذا الحب؟

كنت أمازح صديقي علاء ابن غزة؛ وأول فلسطيني تعرفت عليه، الشخص الذي حبب لي الفلسطينيين بعد أن كنت أحب غزة، والذي جعل من المستحيل أن أرى أي فلسطيني بعيون غير عيون الحب، وأقول له: متى ستسافر من غزة حتى أستطيع زيارتها؟ فيجيبني: وهل أنا من أمنعك من زيارتها؟ إذا أكثري من دعواتك لي لأسافر منذ الغد حتى تستطيعين زيارتها.. كان يقول لي مرارا : قد تتمكنين ذات يوم من زيارة غزة، ولكنه من المستحيل أن تسمح لي غزة بمفارقتها.. سافر علاء ولم أستطع زيارة غزة بعد.

ما زلت أحلم بفلسطين من البحر إلى النهر، وما زلت أمني النفس بأن ذلك اليوم الذي تمحى فيه الحدود الوهمية بات قريبا.

لا أتصور زيارة غزة من دون المرور إلى الضفة؛ والتعريج على القدس، تأبى غزة إلا أن تكون مرتبطة بذهني بالضفة، وأحاول دائما أن أتخيل أن الحدود موجودة على الورق فقط، وبأنني عندما سأزورها سأكتشف أن لابأس من العبور منها إلى الضفة.. طلبت من صديقي أحمد أن يتعرف على فتاة ويخطبها؛ حتى أتحجج بحضور عرسه لزيارة غزة، فأجابني ضاحكا: إذا كنت متأكدة من حضور حفل زفافي فأنا سأخطب من الغد.. خطب أحمد وسيقيم عرسه قريبا ولن أستطيع حضوره.

صديقتي مريم ؛الفلسطينية المغتربة، التي أتمنى وتتمنى أن يجمعني اللقاء بها وبصديقات أخريات لنا، أخبرتها ذات ليلة بأنني أتمنى أن ألتقيها وألتقيهن بغزة وليس ببلد الغربة، فأجابت بزفرة حارة: يا ريت؛ يسمع منك ربنا.. سهرنا الليلة أنا ومريم نحلم بالأماكن التي سنزورها بغزة، وبالأصدقاء الذين سنلتقيهم. حلمنا كيف سيكون اللقاء، وكيف سنحس بالحميمية مع البلد وسكانها، تكلمنا كثيرا وحلمنا أكثر، ولكن الليل كان قصيرا؛ وانتهى الحلم بسرعة.

صديقاتي من كل أنحاء العالم؛ اللواتي جمعني بهن حب الفن الراقي ودعم ابن فلسطين ومفخرة غزة؛ محبوب الملايين محمد عساف، اقترحت عليهن مرة؛ بأن الطريقة الوحيدة التي تجعلنا نلتقي في نفس المكان والزمان؛ هي أن يعقد عساف مؤتمرا يجمع فيه محبيه من أرجاء المعمور.
الجزائرية اقترحت أن يكون المؤتمر بالجزائر، والتونسية اقترحت أن يكون المؤتمر بتونس وهكذا….

اقترحت أن يكون المؤتمر بفلسطين، فوافق الجميع بدون نقاش. لم أخصص غزة بالفكرة، فما زلت أحلم بفلسطين من البحر إلى النهر، ما زلت أمنّي النفس بأن ذلك اليوم الذي تمحى فيه الحدود الوهمية بات قريبا.

أتمنى أن أزور غزة، وألتقي بأصدقائي أحمد وأحمد وأحمد، ومصطفى ويوسف ورزان وغيرهم.
عشق فلسطين لاسم أحمد لا يضاهيه إلا عشق المغاربة لاسم محمد، وإن كانا في نهاية المطاف نفس الاسم. ولا أبالغ إن قلت بأن حوالي نصف من أعرفهم من غزة اسمهم يوسف أو أحمد. يحدث أحيانا أن يفتح المعبر لعدة أيام، ويحدث أن يمر من المعبر من يسعفه الحظ والوساطات، ولكنه حتما لا يشجع من يعيش خارج غزة لدخولها، لأنه لا يضمن أن يبقى عالقا فيها لعدة شهور.

عندما أسمع بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنعم على أحد مشاهير الرياضة أو الفن بفلسطين بجواز ديبلوماسي، أتمنى من كل قلبي أن يعين كل فلسطيني كان سفيرا أو ديبلوماسيا؛ لعلهم يستطيعون المرور عبر المعابر بسهولة؛ والسفر كباقي البشر، ولكن مشكلتنا نحن غير الفلسطينيين ستضل قائمة في العبور من وإلى غزة.

 

إن التفاؤل الذي خبِرته في كل الفلسطينيين بغد أفضل بلا حدود، ويقينهم بعدل قضيتهم وحقهم في العودة يجب أن يدرس.

أخبرت صديقي مرة بأنني صحيح أتمنى زيارة غزة، ولكنني لا أريد أن أحتجز فيها لشهور، وأرجع إلى بلدي وقد نسيني أولادي؛ وتزوج علي زوجي؛ وطردت من عملي، كانت فرصة له طبعا ليخبرني كعادته بأن غزة ليست مكانا للزيارة.

إن أبناء غزة الذين يغادرونها للدراسة والعمل؛ لا يعرفون متى سيعودون لزيارتها، فهم يحرمون من زيارة أهلهم خلال إجازات دراستهم وشغلهم؛ لأنهم ليسوا متأكدين من أن المعبر سيفتح في الوقت المناسب بعد انتهاء إجازتهم. أحدهم سافر لنيل شهادة الدكتوراة في تخصصه، وبدل أن يزور غزة كل سنة كما كان مقررا؛ ليطفئ لهيب شوقه لبلده ولعائلته، لم يعد لها إلا بعد انتهاء دراسته ونيله الشهادة.

سنوات طوال أمضاها بعيدا عن أسرته، ولولا السكايب لكان أولاده قد نسيوا صوته وشكله.

رغم كل ذلك، فإن التفاؤل الذي خبِرته في كل الفلسطينيين بغد أفضل بلا حدود، ويقينهم -وخاصة المغتربين منهم- بعدل قضيتهم وحقهم في العودة يجب أن يدرس.
وما أثار انتباهي مرارا جملة يرددونها جميعا، ليس بلسان الخاضع المستسلم لقدره؛ ولكن بقلب المؤمن الموقن بعدل ربه وحكمته: الله كريم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.