شعار قسم مدونات

الكراميل وكيك الحرب

blog-معاناة

أعددت له الكيك فاليوم سيبلغ عامه الأول في هذه الدنيا فلن أؤجله لأي ظرف كان .. لم تكن متقنة تماما فأصوات القذائف التي تتساقط في جنبات حينا كانت كفيلةً بإرباكي لأخفق في ضبط المقادير .. يحيى الذي لم يعد يبكي حين يسمع قصف الطائرات فهي موسيقى إعتداها منذ أيام أحاول أن أتماسك أمام شدتها لأوحي لعينيه اللتين ترقبان إنفعالاتي بأنك في أمان يا ولدي .. فأصوات القذائف هذه التي من الممكن أن تصيبنا في أي لحظة يجب ألا تخيف عينيك الصغيرتين..

 أجلت تزيينه حتى نتم صيامنا لنحتفل معا .. سأكون خلال هذا الوقت قد حضرت الكراميل الذي أردت أن أعده بنفسي أيضا .. في اتصال مع شقيقتي التي اعتادت أن تبرمج الحلويات كما برامج الويب التي تجيدها .. لم أكن أفهم حينها سبب ضحكاتها المتتالية أثناء شرحها لوصفة الكراميل .. وأن كرات اللهب تنتقل بها من لون الكراميل الأشقر إلى لون اللهب الأحمر الذي يمر كالشهب أمام نافذتها .. فتتلعثم كلماتها لتضايقني فيحيى ينتظر الكيك ..

حصلت على الوصفة إذن فلأبدأ في العمل .. رغم أن الأخبار المتتالية عن سقوط الصواريخ وغيرها لم تكن تضعف عزيمتي .. فلن أقصر في حق طفلي الأول في يوم ميلاده الأول ..إنه لا يفهم معنى الحرب بعد..

يزداد أملي في أن يكون الكيك الذي تركناه خلفنا عزز صمودهم في وجه العدو .. فقد اكتفيت بطلائه بمربى التوت البري قبيل خروجنا علّ أحدا يتمتع بمذاقه .. إلا أن يدا لم تمتد إليه ..فالموت من حولنا وضع حدا لكل شيء

ثوانٍ معدودة .. حتى اشتدت القذائف.. وارتعدت حولنا الجدران .. لتسقط عيني على شاشة التلفاز التي اعتدنا أن نتركها تعمل في هذا الوقت العصيب لأرى الأطفال وأشلاءهم في استهداف بيوت المدنيين من حولنا.. أقعدني المشهد حتى قبيل الفجر .. اكتفى يحيى باللبن وخلد إلى حضن أمه التي لم تقوى على الوقوف .. وأنا التي كنت أطمئن نفسي بأن القذائف بعيدة .. لكنها لم تعد كذلك .. فقد احترق السكر واحترق معه كل شيء..

أخرجنا اللهب رغما عنا .. وهرولت بنا الدقائق والساعات من بيت إلى بيت .. ومن موت إلى موت .. أحتضن طفلي للوداع تارة ولأطمئنه تارة أخرى .. وأطيل النظر إلى أحبتي لتمتلئ عيني بهم قبل الرحيل ولأدعوا أن يحفظنا القدير تارة ثالثة.. ويلوح أمامي طيف أهلي وأحبابي ترى ما الذي وقع بهم ؟؟ ما سر طمأنتهم لي وضحكاتهم التي لم يعد يخفى أنها مصطنعة ؟؟

إنه اليقين الذي يلقي في قلبك ابتسامة الواثق بربه وأنت بين براثن الموت .. هو ذاته الذي يجعل آيات الكتاب تتردد على لسانك وأنت تهرول .. فتخطؤك القذائف..

ليعود علينا العيد بعدها .. ويعود إلينا المصطفون منا شهداء مبتسمين .. ويعود السلوان إلى قلوب أهليهم صابرين .. وما عدنا إلى بيوتنا .. وما خبا الأمل بعود مشرف قريب لا كشبح النكبة التي لم تغادر مخيلتنا..فلم يعد الأبطال مثلما قبل يتغنون على أنغام الفن الكاذب .. فقد شاع بين الناس حديث أن النخبة التي تهاجم خلف خطوط العدو .. جميعهم من حفظة كتاب الله ..

ليعزز حديثهم حديث اليقين في نفسي .. ويزداد أملي في أن يكون الكيك الذي تركناه خلفنا عزز صمودهم في وجه العدو .. فقد اكتفيت بطلائه بمربى التوت البري قبيل خروجنا علّ أحدا يتمتع بمذاقه .. إلا أن يدا لم تمتد إليه ..فالموت من حولنا وضع حدا لكل شيء..

ودمر كل شيء.. إلا النفوس التي عادت إلى مساكنها تبني الحياة من جديد .. ولم تنل نصيبها من كيك الإعمار الذي اختلسه بعض مروجي الكلام الكاذب الذين لم يمنعهم الحياء أن يأتوا إلى غزة خصيصا ليلتهموا ما استطاعوا من الكيك .. ويحرموا منه فيما بعد الكثيرين ممن لازالوا ينامون إلى الآن في غزة المحاصرة في ظلال حجر محطم أصم بأمعاء خاوية بلا كيك أو كراميل .. أو حتى كسرة من خبز تسد جوعهم ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.