شعار قسم مدونات

ياسمين تحت الأنقاض

blogs - syr
بقلب مرتجف وذاكرة تحتضر وقلم بارد، أجمع روحي بتنهيدة واحدة، وأنفثها في حروف دمشقية مفرطة بالحب الموجع..

من بين تلافيف رأسي ينبت اليآسمين عندما أتحدث عن دمشق، ياسمين ظمآن لا يلبث أن أسقيه بتلك التفاصيل السماوية، إلا يحترق بجمرة من البكاء المكلوم وينطفئ كل شيء. حآرة صغيرة في وسط دمشق، تعانقها شجرة ليمون يسرق من الشمس لوناً وهاجا، وزنبقة صغيرة تُدلي برآئحتها على كل قلبِ محب، بيوت تتقابل، وأرواح على الخير تلتقي.. الله أكبر.. صلاة الفجر.. وصوت الأموي يعلو وتعلوا قلوبنا بالنور.. نرتل باسمه آيات الرحمة.. نسجد في حُضن شآمنا.. حيثُ ملائكة الله باسطة أجنحتها عليها.. سلامٌ عليكم.. سلام إلى مشآرق الأرض ومغاربها..
يُمسك بيدي عجوز، ويحتضن متاعبي ب "تقبل الله صالح عملك".. صوت خير يزرع بداخلي اليقين بأن كل شيء سيكون مزهرا. صبآحُ الحياة فيك أموييَ.. صباح الفن المعشوق.. حالة من التجلي في سآحته المقدسة.. لم أكن أدرك وقتها أن قطع الفسيفساء مكعبة الحجم التي لا يتعدى حجمها بضع سنتيميترات من الرخام، تحمل ألوانا وقطع فرح استثنائية جدا.. بلغت مبلغها من الجمال!
من بين سرب الحمام وموسيقى تسبيحه أَخرج حاملاً حبَاً وحُبا .. روتين دمشقي يأخد بقلبي قبل قدمي إلى مخبز الحي القديم .. السادسة صباحا.. الناس تهرول بخطوات جائعة! أنتظر رغيف الخبز ورائحته تفوح على وجهي، وتمتزج بالصباحات الباردة .. وذاك الشارع والبوابات الخشبية الصغيرة في ممشاي وسلام القريب والغريب وأشجار الورد وفلسفة عشق الوطن من هنا تبدأ..

صوت الأموي يعلو وتعلوا قلوبنا بالنور.. نرتل باسمه آيات الرحمة.. نسجد في حُضن شآمنا.. حيثُ ملائكة الله باسطة أجنحتها عليها.

قُبلة على يد الوالدة و حديث مغمغم يكلله الرضآ .."الله يرضى عليك يا يامو اسقيلي هالزرعات لأغلي هالقهوة ودير بالك ع الياسمينة .. شوي شوي اسقيها" .. ليكتمل صبآحي الأخضر وتنغمس روحي في النور..أغرس القلب وما حوى بجانب تلك اليآسمينة استثنائية الحب.. واسقيها بماء العِشْقِ.. فتصبح أصابعي عريشة يآسمين .. "حَيَّ على الياسمينْ.. حَيَّ على الياسمينْ".

وأمي تحضر الدَلة على الحطب و الصوت الفيروزي .. أضم الى قلبي رائحة البن حبة حبة .. أشعر و كأنها شجرة من قهوة تنبت بين أضلعي .. او رئة ثالثة امتدت الى صدري.. أرتشفها في أرض ديارنا مع معمول النانرج المُر ..أتلذذ بصبآحي الدمشقي المخملي.. أتامل كيف أن للحب أكثر من وجه .. بلاطة سوداء و أخرى بيضآء وبحرة صغيرة مزخرفة تروي تراث روحاني سوري أصيل .. درج مرتفع غرف تساند بعضها كتفا إلى كتف في الأعلى .. وشباك يروى قصة المحبوب .. وعريشة عنب و صوت قبقاب وأكياس حنطة في تلك الزاوية .. ومكنسة قش يدوية .. و حمرة التوت تعلو شفاه أختي نرجس كل وقت!

أغرق في التفاصيل .. أتلذذ بها كقطعة سُكر .. شجرة التوت تلك الضخمة بحجم سماء قلبي .. لطالما وقفت على حافة الفرح و اعتنيت بها .. أسميتها شجرة الأحلام في طفولتي .. علقت على أغصانها بعض أمنيات .. يُخيل الي أن حلمي يقترب من الحقيقة كلما نضجت حبة توت و سقطت بين كفيَ ..
مشوار إلى الحميدية "يصنع في قلبي وطن آخر .. وطن من أعياد.." برفقة جدي .. انظر اليه وهو مُتَّكِئَ عَلَى عُكَّازِهِ وَتَخْرُجُ مِنْه أَنْفَاسِ مُتْعِبَةٍ أَتْعَبَها طول السنين .. لون الدنيا ورائحتها فييَ وأنا استمع الى قصصه .. عينيه الصغيرتين .. شيب رأسه .. لحمه الطري و عروقه البارزة وبحة صوته .. نبرةالقوة في حرفه .. اجتماع الدم في وجهه وهو يحدثني عن حكاياه.. وبين الحكايا الطويلة وازدحام الوجوه الغريبة .. ابتسم ابتسامة جعلت نبضات قلبي تنقبض لوهلة! 
حَدثني عندها عن شجر اليآسمين استوصاني بها خيرا!
 
شامنا لم تعد الشام التي نعرفها.. فقد عانق السواد جميع تفاصيلها.

"هي الياسمينة ياجدي قطعة من الجنة.. عمرها من عمري وياما شهدت حكايات حب وحفظت قصص وروايات.. هي وطن بحالو".. ميت أنا.. ميت رغم عني بين جمرات البؤس .. أي وطن و أي ياسمين و أي حكاية! ليتك تعود لبرهة.. يااه.. عن قدسية الياسمين تجري في أوردتي.. كيف انها رئة الحياة وصباحاتها ونقاءها.. برد الدم في عرقي ونحل الجسد وتشبث به الموت.. انعطبت رئتي ولااتنفس سوى حزن مترف.. ياسمينك يا جدي تحت الانقاض..

يآسمين دمشق كله في واد غير ذي زرع .. الأزقة الضيقة تلاشت دفعة واحدة إلى فُتات من قصص و آهات ..الخبز مغموس في الدم .. رائحته رماد تعلو وجهي! العريشة لا لون لها .. فيروز لم تعد تغني .. والقهوة مجرد بروفين مهدىء للأعصاب .. في الحلم رأيت نرجس تأكل من توت الجنة ، وعلى شفتيها حمرة لذيذة .. و أحلامي على أغصان الشجرة ضاعت في سبيل الحرب..

سرب الحمام باكيا في الأموي مهاجرا بهجرة أهله .. شامنا لم تعد الشام التي نعرفها .. عانق تفاصيلها السواد .. لا شكل للحياة الآن في كل عين قلبي ..أشتهي الموت لكنني أخجل من جدي! أن يسألني عن ياسمينته .. أو ماذا فعلت لأزرع ياسمينة أخرى!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.