شعار قسم مدونات

مروج الأصيل

blogs - writing - aseel
الكتابة تعلّم الفرد أن مفرداته لها قيمتها، هي تجعله يشعر بوجوده، ويرتقي إلى ذاته كل حين، هي تحمل كل المعاني على اختلافها كاختلاف الأمم وورود البساتين، هي تتصاعد وتنزلق على فترات لترفع الإنسان إلى مراتب لم يتخيّل وجودها قبلها، ثمّ تسترجع حكاياته لترصف له بقاءه بين كل المتغيرات، ولتخبره بأنّ حتى أهمّ تغيير يصيب ذاته هو في منآى عنه، لأنه الثابت الجريء أمام ما من شأنه الإقدام عليه.

هو سحر اللسان والبيان، هي قلعة العزاء تراوح رحال رواد الفكر والتفكير، وما أغرب المفكّر الذي يبحث عن لسان يجمع به نتائج تفكيره

لم يكن لنا من أخبار الأمم أيّ نصيب لو لم تكن الكتابة، وفي زمن بلغت الألسن الحناجر جراء تقدّم قواعد كتاباتها، تقبع أمم في الغرق الشفهي إلى اليوم، وعندما ترغب في خط الحروف إما تستعير حروفا غريبة عن ثقافتها فيجعلها هذا الفعل غذاء لثقافة أخرى أو تستميت في وهم امتلاك أحرف وكلمات هي في الأصل معركة لكسب ذاك الشفهي، تدور بين الأحرف والألسن، هي كلها أجنبية عن تلك الثقافة الشفهية.

ألقي نظرة ما على ثقافة ما فأجد أنها تخط كلماتها بأحرفها، أبحث في قاموسها عن المعاني المختلفة بأجدها مرتبة أمامي، أسير على هدى صيغها وبرامجها اللغوية لأكثر من مرة، وأهتدي في آخر المطاف إلى الوصول لباب متاهتها عبر ارشاداتها، فتكرّمني بتعليقات أهلها وتشجيعاتهم.

هو سحر اللسان والبيان، هي قلعة العزاء تراوح رحال رواد الفكر والتفكير، وما أغرب المفكّر الذي يبحث عن لسان يجمع به نتائج تفكيره، ليجد اللسان العربي لقيطا عن بيئته وهو لسان الدين عنده، واللسان الفرنسي جزء من ثقافته التي خرجت من رحم القهر لديه، واللسان الانغليزي الذي يرميه في فضاء الضياع التقني بلا مبرر، فإن ما هو تكلّم بالعربي صار متخلفا، وإن ما هو تكلم بالفرنسي صار عميلا خائنا، وإن ما هو تحدث بالانغليزي صار تابعا أعمى، هو شتات البيان الذي هو أبلغ مصائب الإنسان.

الفكرة واحدة والألسن تتعدد، تحتفل بأسماء مختلفة التوجهات والتصلّبات، تجمع الكثير من التناقضات والأيديولوجيات، لكن اللسان هو ذاك الحارس الخفي الذي لا يرتاح سوى على أنغام هدوء وأمان المعنى، فرقصته تبقى أبدية على أنغام أجنبية حينما يرتكز الفرد على أرض جزائرية.

إن كان الاحتلال المسلم جاء بعقيدة سماوية، والاحتلال الفرنسي جاء بأيديولوجية مدنية، فإنّ الاحتلال العثماني "التركي" فقد جاء بعقلية تنهب الحجر والبشر

هناك من يجيد أكثر من لسان وهو مستحن، لكن ما يذهلني حقا هو العيش ضمن أمواج ألسن متعددة، ما هي بالعربي ولا الأمازيغي، ولا هي باللاتيني ولا مشتقاته، ولا هو بالمكتوب ولا المدوَّن، وتكمن الخطورة في هذا عند اعتبار اللسان المستعمَل هُوية لا أداة حفظ للهُوية، حيث يصبح الشفهي منبوذا أمام العلوم والأفكار، بينما يحرم على المتأمّل إستعمال لسان مكتوب مهما كان، لأنه ليس من مكوّنات "الهُوية"، فلطالما دعت الضرورة والحاجة إلى إستعمال الأحرف، وقد أثبتت العولمة حاجة المفكر إلى التواصل مع الألسن المختلفة في وقت أو مدة يتيمة، بينما بقي البعض الآخر حبيس طوباويات الأنفة المحلية، فحصروا التفكير بين التقاليد والتعاليم، أو بين الخيانة والمبادئ الرنانة.

صديق لي يطرح سؤالا على الجزائريين مفاده: مدة طويلة من الاحتلال العثماني على الأرض الجزائرية، كانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية، لماذا ولا جزائري يتقنها كما حدث مع اللسان العربي إبان الاحتلال المسلم؟ أو اللسان الفرنسي أثناء الاحتلال الفرنسي؟؟

علينا أن لا ننس بأن اللغة وصال واللسان تواصل، وهما ينبعان من الصلة، فإن كان الاحتلال المسلم جاء بعقيدة سماوية، والاحتلال الفرنسي جاء بأيديولوجية مدنية، فإنّ الاحتلال العثماني "التركي" فقد جاء بعقلية تنهب الحجر والبشر، ولهذا فلا صلة بين الناهب الأناني الذي يشرب من دماء الأقوام وثرواتهم سوى بناء جدار صلب بينه وبين ضحاياه، وهذا ما حدث فعلا، لدى يجوز لي أن أحيي الاحتلال الروماني للجزائر فقد كان أجمل المحتلين وألطفهم، فالطغاة أيضا منازل وعليّ إنزال كل طاغية منزله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.