شعار قسم مدونات

حواراتٌ بين أعينٍ حولاء

blogs - tahrir
إذا قال أحدهم " حذاري من الذهاب للشرق … ! " ، فسيبدأ السامعون بالتأويل فور سماعهم ، و يتطاولون بشكلٍ متسارعٍ على قصده ب " الشرق " … و قليل من سيسأل : أين أنت يا من يحذرنا ؟ ، ليعلم أي الشرقِ كان يقصد ، هل البعيد أم القريب .

و كذلك الحال في الحوارات الإجتماعية و الخطابات الإنسانية ، بكونها لوحةً يراها كلٌ بحسب ما يرىٰ و ذلك الطبيعي ، و ذلك هو الهيِّن و السهل ، فعوض أن تسأل المخاطب عشرة أسئلة لتفهم القصد الصحيح من قوله ، تبادر متسرعاً متهوراً إلى التأويل ، التأويل الذي يزيغ كثيراً عن الصواب ، و يجرُّ معه الجدال وراء الجدال .

الأصل أنّ اختلاف الناس في الأراء لا يقعُ إلاّ إذا وقع الخلاف في المسلّمات و في مفاهيم الأمور و عمق معانيها

فما من مهدِّمٍ للحوار إلا " سوء فهم القصد في في موادِ الحوار من إصطلاحات و حقائق " ، فالحوار ليس غائباً أو منعدماً كما يدّعي البعض أنّه غائب تماماً ، خاصةً في الأمم المتصدرة للركب التخلّف ، إنما هو الحاضر السقيم المريض المضعضع ، الذي لم ينل حظّه من الضبط على المرونة ، بين المتعصبين ، المتعالين و المنغلقين ، إذ يخلوا من الأسئلة : ماذا تقصد بقولك كذا ؟ و ما دليلك على كذا ؟ و إلى أيِّ سندٍ إستندت في كذا ؟ … إلى ما يليها من أسئلة إستفسارية تفيد الوضوح و تزيل اللبس و الغموض و التضليل .

فهو إذا الحاضر المُغَيَّب ، بين من لا يرضى الحوار إلا مع من شاء ممن يواقفه الأفكار ، فيُخِلُّ بأحقّية أي ذي عقل في الحوار ، من باب الإنصاف و الإنصات و الإستشراف ، و بين من يروغ بالموضوع فيه إلى مواضيع أخرىٰ ، في محاولته أن يصطنع " الإختلاف " في كل شيء ، – كأنه يعتبر الإختلاف قضاءً لا بُدَّ عنه – .

و الأصل أنّ اختلاف الناس في الأراء لا يقعُ إلاّ إذا وقع الخلاف في المسلّمات و في مفاهيم الأمور و عمق معانيها ، فترى الإصطلاح واحد و كلٌ يقيسه بما شاء ، فمن أين له أن يأتي هذا التفاهم ، فهذان يتحاوران في قضية من الأفضل و من الأعظم بين المرأة و الرجل ؟ ، فيستعصّب كلٌّ لرأيه ، بتراشق التهم ، دون الرجوع إلو الأصل ، أن المرأة إنسان مختلف علىٰ الرجل ، ليس عن طواعية منها أو من الرجل ، بل إختلافٌ للتكامل و كمال الحياة ، و بذلك قولهم في أفضلية هذا على هذه قول لا أصل له ، كلُّ حوارٍ فيه يبقىٰ ضرباً من الفتنة و إضاعة الجهد .

و كذلك هي الكثير من الحوارات التي تتضارب فيها الأراء في أمورٍ لا أصلَ و لا جدوىٰ من تجاوب الأراء فيها … و تجاوزاً لمثل تلك المواضيع ، تأتي مواضيع تستحقُّ تضارب الأراء ، إنّما لا تبرر أن ينفرد كلُّ واحد برأيه و يتعصّب له ، و يهلل " بأنا الحق و دوني الباطل " ، إنما هي أجزاءٌ مُجزّأة للحقيقة ، تستدعي التجميع ثم الغربلة فالتمحيص و بعده التركيب ، في قالبٍ إسمهُ " الحوار " .

اللغط الباطن أهون بكثير من اللغط في بواطن النفوس ، و هو إن لم نقل أنّه مرضٌ إنسانيٌّ عضال

فهو المُجَمِّعُ و هو الـمُفرِّق في العلاقات الإنسانية ، فهو النابش في عمق الخفايا ، الخفايا التي لا تستمرُّ أي علاقةٍ إنسانية إلاّ بها ، التي تكون في صيغة غضب على الطرف إثر موقفٍ من المواقف مثلاً ، و هي الجديرة بالظهور في خضمِّ العلاقات ، بدل إظهار الحبّ الزائف و العواطف " الحولاء " ، كأن – كل شيء على ما يرام و أكثر – ، إنما المصارحةُ خيرٌ من الإخفاء ، فالإخفاء منفذ شيطاني لتمزيق المتين من الروابط ، فلربما كانت تلك – الحقيقة المخفية – ليست إلا سوء فهم .

فبذلك الحوار هو مقبرة لدفنِ جيف الصراعات و الخلافات ، و ليس رحماً يلدها ، هو بابٌ تخرج منه المغالطات و الملتبسات بين فرد و فرد أو جماعة و بين جماعة و جماعة ، بين مذهب و مذهب ، و ليس مدخلاً شيطانياً لها .

كل ذلك إذا فقط إذا سلمت المقاصد من نزعة الذات و توحدت على ذلك ، إلاّ و كان الحوار حينها لا يفوق اللغط قيمةً و إن اختلف شكله ، من باب أن اللغط الباطن أهون بكثير من اللغط في بواطن النفوس ، و هو إن لم نقل أنّه مرضٌ إنسانيٌّ عضال .

فبتفاوت إهتمامات الناس و همومهم و أغراضهم ، يأتي العُجاب في الحوارات في أبشع صور الصراع و توليد للأحقاد و الأغلال ، فأمامهم شيء واحدٌ فقط ، فيتفرع إلى إشياء متناقضةٍ متناطحة ، و ذلك من تفرُّعِ ما أختلفوا فيه من المقاصد ، و شتان بين الحوار و اللغط .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.