شعار قسم مدونات

حُريةُ التَّعتير

blogs - reveloution - tateer
يعج الوطن العربي في الحقبة الزمنية هذه بالشعارات الوطنية التي تتغنى بالكم الهائل من الحريات التي ينعم بها المواطن العربي, بعد أن ثار على حكومات القهر و الإستبداد، و في مقدمة هذه الحريات التي يسبح المواطن العربي في فضاءاتها – حسب أقاويل الحكومات – حرية التعبير، فهل حقاً فاضت بلادنا بالحريات حتى بات المواطن العربي يتمنى لو ترجع أزمنة الخنق، أم أن الحرية التي تعنيها الحكومات في هذا الجدل اللفظي هي حرية ( التعتير )!

كل هذه الأسئلة تتصارع الآن في عقلي الذي بلغ العشرين من عمره منذ أيام، بعد أن قرأت ما يكفي، و كتبت ما يكفي

لقد ثارت بلادنا العربية منذ خمس سنوات على أجهزة مارست صفع المواطنين منذ أن رحلت قوى الاستعمار عن بلادنا العربية، ثار المواطنون العرب على أجهزة الأمن السياسي، و على الأيدي الهلامية التي تغلق الأفواه و الجيوب، و تفتح خزائن الهروات، و القنابل المسيلة للدموع، فهل حقاً كانت اللطمة التي أنزلتها الشرطية التونسية (فادية حمدي) على وجه (محمد البوعزيزي ) هي آخر اللطمات، أم أنها فاتحة لأساليب قمعية جديدة تمارسها أنظمة ( ديموكتاتورية ) على أكتافنا العربية ؟!

إننا و منذ أن أشعل البوعزيزي النار في جسده تحولنا إلى دمى شعبية تتسلى الحكومات وإجراءاتها التعسفية في تحجيم أنفاسنا، و تحديد كميات الأكسجين التي تدخل إلى قصباتنا الهوائية و أجهزتنا التنفسية، لقد ثرنا باحثين عن الحرية فانقلب السحر على الساحر،
و صار القمع الحداثي يسيرنا إلى طرقات أكثر تعرجاً من اللاتي كن في عهد القذافي، وزين العابدين ومبارك، فهل ستشنق دُمانا و تعلق إلى جانب (عمر المختار) كما صورها لنا الكاتب السوري (زكريا تامر) منذ أكثر من أربعين سنة!

كل هذه الأسئلة تتصارع الآن في عقلي الذي بلغ العشرين من عمره منذ أيام، بعد أن قرأت ما يكفي، و كتبت ما يكفي، ليوقعني في فخ المواجهة مع الرقابة العربية التي تمارس تكميم الأفواه كل يوم، و كل لحظة، و لا تترك مقالاً، أو رسالةً، أو قصيدة، أو رواية، أو عملاً فنياً، إلا و تمرره تحت إبطيها، فيختنق هذا العمل، و يعتزم أن يشنق نفسه، إلى جانب (الدمى) و (عمر المختار).

و قد قصدت كتابة هذه التجربة الشخصية بغية طرح التساؤلات الموجعة، و لأن الإيجاز هو روح الحكمة كما يخبرنا شكسبير، فإنني سأحكي لكم قصتي مع (حرية التعبير) العربية، بكل اختصار.

لقد كتبت -طيلة سنة كاملة- عملاً روائياً يلخص أحداث الثورة السورية، و انعكاساتها المادية والنفسية على (بطلها العشريني)، و ما يحدث في سوريا منذ أن اشتعلت الأحداث في درعا وانتقلت إلى حماة، و حتى تربع تنظيم داعش على واجهة الأحداث في عام ٢٠١٣، و قد التزمت أن أكون صوت العشريني و الأربعيني و الستيني السوري، أردت أن أكون صوتاً لكل المترملين عند حواف أملهم، في الظفر بقليل من الحريات التي دهسها نظام الأسد منذ نعومة أنيابه -على افتراض نعومتها في شهورها الأولى-.

وقد انتهيت من كتابة العمل قبل شهور، ثم حدقت بعد ذاك بعناية محاولاً التقاط فرصة ذهبية للنشر، دون الالتفات إلى حجم الدار التي أبحث عنها، أو تاريخها الأدبي، لإنني وببساطة، لا أملك من المال ما يكفي التاجر ، أو الناشر ، ليبذل على عملي الأدبي مجهود نشره ، و توزيعه ، و وضعه على أرفف المكتبات العربية.

هل حقاً تتيح لنا حكوماتنا مجالاً عصرياً في حرية التعبير ، أم أنها تواضب على أداء مسؤوليتها التاريخية في أن تكفل لنا حرية ( التعتير )!

وقد جاءتني فرصة للنشر في مكان تمنيت منذ أن أنهيت العمل أن أنشر فيه ، متوقعاً بأن الرقابة في هذه الدولة هي الأخف وطأة من أخواتها العربيات .
لقد كانت دار النشر عربية إماراتية ، في هذه الدولة التي توفر للمبدعين العرب مساحةً من الحرية ، و البيئة الإبداعية البحتة .

و قد وافقت لجنة التقييم و القراءة في الدار على نشر العمل ، ثم أخبرتني برفعه لينال نصيبه من الإجراءات الرقابية الحكومية.

و قد فوجئت أول الأمس – بعد رفعه بثلاثة أسابيع – ببريدي الإلكتروني ينبهني لرسالة يحملها من دار النشر ، و قد هرعت لأفتحها و مشاعر الفرح تغزو كل خلاياي الجسدية ، و العاطفية .
و قد فاجأتني كلمات منع العمل من النشر – مع التحفظ على محتواه – ، و قد نزلت عليّ حقاً ، مثل تلك اللطمة التي أنزلتها الشرطية التونسية على خد البوعزيزي الكادح ، مخبرةً إياي ، بأن الدولة التي رفعت رأسي بها كثيراً ، و افتخرت في تطورها كأنها بلدي ، و حرصت على أن أجعل من إنجازاتها – في أذهان الآخرين – ما يتجاوز أبراجها في القامة ، لا بل و تتقزم الى جانبه ، بأنها لم تسلم من أن تكون مثل أخواتها العربيات ، لا تتوانى عن إعدام الفن إذا كان في إتجاه آخر ، غير الذي تحبه السياسة ، و الدبلوماسية ، و البروتوكولات !

وقد جئت لأتسائل هنا، في هذا المقام الذي أكتب فيه وأنا بأشد الثقة من وصول هذا المقال إليكم هل الدول العربية تسبح إلى الوراء، و تسير الى الماضي، و تطير الى السفوح ؟

و هل سنعود ( لنولول ) على أيام ( الشتاء العربي ) ؟
و هل حقاً تتيح لنا حكوماتنا مجالاً عصرياً في حرية التعبير ، أم أنها تواضب على أداء مسؤوليتها التاريخية في أن تكفل لنا حرية ( التعتير ) !

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.