شعار قسم مدونات

حدوتة غزية.. ذاكرة العصفور

blogs - flower
"ألا إن شر الحوادث هي تلك التي تنزل بنا فلا نعرف بها إلا أننا كنا نعيش من قبلها، وتتقدم الحياة يوماً بعد يوم، ولكن الحي الجامد في مكانه من الزمن على ألمٍ يتوجع له ما يبرح أو ذكرى يحن لها ما زال"
الرافعي ..

ما قبل البداية
تنويه: بعد الرحيل بتُّ أحيى بذاكرةٍ خرقاء عجزت أن تحمل إليَّ لحظاتي بقربه وكل ما أستذكره يأتي ويمضي كخيالاتٍ  خشيتُ فقدانها فبدأتُ بالكتابة عنه ومنه وإليه وذّيلتها بذاكرة العصفور ، ثمَّ استوطنت لتستحل جميع كتاباتي ، واليوم أختصر لكم الحكاية في أولى مدوناتي هنا للحاضرين خلف الشاشات لأولئك من أرسلت لهم السماء قبساً من نورٍ يشاركهم رتابة الحياة وأنين الحزن وصرخات الفرح المنتشية.. لمن خدعتهم الحياة وراوغتهم الأيام فظنوا أن الحب خلف أسوار حديقة المنزل.

(على قارعة الطريق وجدتُ نفسي ملقاة ، بلا ذاكرة )

نحنُ على الأرض نبني لأرواحنا في السماء، ومنّا من يبتني لنفسه المدينة العظيمة بخيراته وحسناته، ومن يبني لروحه السجن الضيق الوعر بآثامه وذنوبه

غفوتُ في ليلة العيد تلك وكل ما هو عالق في ذهني بريق بسمته التي اتسعت ضاحكاً لمنظري وأنا ألتهم الطعام بكل شراهة، لأصحو بعد سنوات على صوتٍ ملئٍ بالأسى يقول مات!
ذاكرتي التي تمسكت ببضعِ خيوط مغزلية تحاولُ عبثاً ربط الأحداث واحداً تلو الأخرى لتصنع لي بعد الموت حياة.

بين ليلةٍ وضحاها أُجبرتُ أن أنضِج فاقدةً تلك الفقرات التي كنتُ أرفع بها رأسي للسماء بكل شموخ، ثم أنظرُ لنفسي فأراني هناك أمام الباب أنتظر جثمانه بقلبٍ يضخُ جرعات متلاحقة من السُّم كُانت فيما مضى زهرُ زنبقٍ يتفتح.

لم أدرِ كيف كُنت أسير ولم أعلم متى أصبحت واقفة أمام جثمانه أقبلُ جبينه بأطرافٍ باردةٍ وأقدامٍ لم تعد منّي وعقلٍ يرجو خرافةَ الأقدار ان تمنحني معجزة أخرى فيحيا أو نموتُ معاً كما وُلدنا معاً، لكنّ ما حدث كان أن رحلت مع رحيله سنين من العمر كانت قد تجمّلت بتفاصيل حضوره.

تخاصمنا يوماً – وكان الخصام الأول والأخير – فأرسلتُ إليه شِعراً مقتبساً ولم يعقّب عليه أو يذكره أماميَ البتة، فقط إبتاعَ ليَ الحلوى و مشينا حتى منتصف الليل أستمع لثرثرته وكان يعلم أنها أحب الأشياء إلي ، هكذا كان فريداً حتى في خصامه .

فقيدي الذي شاركته تاريخ الميلاد ، متعة اللعب ، عناء الدراسة، آفاق التفكير و روعة إختلاف الآراء وإن لم أشاركه يوماً جدران الرحم أو البيت، ها أنا  أقف منحنية الظهر أمام ضريحه أتأمل حروف إسمه وتفاصيل عقدين ونيف، واستذكرُ رجلاً خرجت وإياه عن رتابة القدسية الدموية للعلاقات الأسرية و بريق الصداقات التي تزول مهما استطالت واستمكنت ، لأتقوى به على الدهر ويستند إلىّ حين يميل جذعه.

أمام شرفة منزلي أتأمل تلك الطفلة ذات الشعر المجعد تركض خلف الطفل البدين صاحب خدود التفاح ثم أجدها على بُعد خطوتين بحجابها تتبختر بقربه تتباهى به أمام أبناء الجيران، أُزيل دمعةً التصقت عنوة بأهدابي فألمحها هناك حيث الأفق كسيرة الجناح دونه.. أسأل ذاتي هل هذه النهاية؟ وأتساءل عن ماهية الحياة التي تمنحنا المعجزات ثم تختبرنا بفقدانها!

استشعرت ليلةً كفّه يلامس كتفي هناكَ في بيت الله وسط خشوعِ صلاة التراويح، فاقشعرّ بدني وسالَ دمعي أجُننتُ ليلتها أو ربما لفرطِ الحنين، لستُ أدري؟

هناكَ عَلقت، وهذا ما التصق من الذكرى وشحيح خيالات فقط.

ما بعد النهاية
قال الرافعي في الموت "لستُ أرى الموت إلا رجعة الروح إلى عالم أنشئ لها من أعمالها في رحمة الله ونقمته فنحنُ على الأرض نبني لأرواحنا في السماء، ومنّا من يبتني لنفسه المدينة العظيمة بخيراته وحسناته، ومن يبني لروحه السجن الضيق الوعر بآثامه وذنوبه"
وبناء السماء تتناقله أحاديث أهل الأرض فانظروا ماذا تنشؤون ومع من تنشئون

خاتمة: لا لم يمتّ برصاص الاحتلال بل اتفق الاحتلال الداخلي والخارجي، فمات! ولم يكن حبيباً بل كان أكثر، كانَ أخي، انتهى قبل البداية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.