شعار قسم مدونات

جِد للحياة سبيلا

blogs - blind
لأولئك الذين يتقنون الحياة، الذين رأو فيها ما يستحق يُرى، عرفوا معناها، وأدركوا غايتها، لم يعقهم عائق، ولم يثنهم شيئا، وسعوا في مناكبها، فأحسنوا السعي.. حين قابلتهم، بل حين عايشتهم، أدركت كيف يمكن لهذه الحياة أن تعاش حقا، لذا وجب علي شكرهم.

نعم أشكر أصدقائي المكفوفين.. الذين لن يقرأوا شكري هذا، لكن حق علي أن أذكر فضلهم، أشكرهم فرداً فرداً.

جئت إليهم أحمل أوراقي وخلاصة بحثي لأطبق عليهم عدة مقاييس لأكشف عن حياتهم إن كانت حياة هانئة أم بائسة كما افترضت، فجعلوني أعيد النظر في حياتي!
 
أبهرني كم الرضا عن حياتهم، وكم التقبل لإعاقتهم، أخجلني صبرهم وقوتهم وطموحهم وسعيهم وجدهم ومرحهم.. كل منهم يشكل أنموذجاً فريدا، شدني لأن أخوض معهم في تفاصيل حياتهم التي لم يجدوا حرجا في سردها..

فاجأني مواساة أحدهم لي حين أحس بتأففي من طول عملي بدعوته لي لأن أكون أكثر إيجابية وتفاؤلاً، وأخذ يتصل بأصدقائه ليأتوا إلي كي أطبق عليهم المقاييس، وهو نفسه الذي يجلس مستمعاً إلى قراءة كتاب واحد ثلاث ساعات متواصلة أذهب وأجيء وهو على نفس الجلسة مع تغيير القارئين فقط!

قرأت مئات الدراسات الأجنبية عن الرضا عن الحياة لأعد أطروحتي، ولكني اكتشفت أني لم أعرفها إلا حين التقيت بهم!

أخذت أراقبهم وآخذ دروسا منهم.. فهذا يراجع دروسه بالأدب الإنجليزي بلغة بريل، وآخر يجلس مستمعاً إلى تسجيل على الهاتف لمادة الامتحان ويعيد ويزيد بها ليحفظها، وذاك يعد بحثاً على حاسوبه لتأخذ كل خطوة منه ثلاث أضعاف ما تحتاج من الوقت، وفتاة تمسك الأوراق وتقربها إلى عينيها حتى تكاد تلامسها لتقرأ كلمة، وأنا أتذمر من تعبئة المقياس لأحدهم!

تسمعهم يتندرون بمواقفهم الصعبة فذاك سقط في حفرة، وآخر ارتطم بعامود، وأحدهم ضاع عن محاضرته، وآخر اصطدم بالباب، ويضحكون بكل بساطة، وأنا أضع نفسي في مكانهم كم كنت سأتقبل وضعي؟

أن تكون مبصراً وتلعب في ناد رياضي معروف، تتعرض للإصابة فتدخل المستشفى، ونتيجة لخطأ طبي أصبحت كفيفاً.. وبدل الكرة والبطولة أنت الآن تلعب الشدة بلغة بريل!

أن تأتي إلى الدنيا كفيف، ولك أهل جهلة لم يتقبلوا إعاقتك فلقيت من القمع ما لقيت، وأنت الآن مكفوف مع حركات نمطية واضطراب حاد في النطق!

أن تمتلك عينين خضراوين من أجمل ما يكون، ولكن بصرك يخفت تدريجياً حتى لن ترى فيهم سوى الظلال!

أن تتقدم لامتحان الثانوية العامة على أنك كفيف- والكفيف لا ياخذ مادة الرياضيات- يراك مسؤول القاعات في امتحانات الوزارة، ويشك في كونك كفيفا لإنك على حد قوله "مش مبين عليك" فيكتب فيك كتاباً، وتجبر على تقديم مادة الرياضيات التي لم تدرسها أبداً، فتنجح في الفصل الأول "على الحفة" وفي الفصل الثاني لا تنقصك سوى 7 علامات ليكون معدلك كاملاً.. ورغم ذلك أسألهم سؤالاً كنت متأكدة من إجابته حتى سمعت ما غير كل تفكيري "لو قدر الله لك أن تعيش حياتك مرة أخرى فهل تغير منها شيئا؟" ويجمعون على أجابة واحدة "لا، لن أغير منها شيئاً!"

ويؤكدون؛ لو لم أكن كفيفاً لما تمكنت من السفر في مؤتمرات عالمية.. لو لم أفقد بصري لوجدتني في السجن لأني كنت "مشكلجي".. لو لم أكن كفيفا لما تعرفت على أصدقائي الرائعين..

وأنا التي قرأت مئات الدراسات الأجنبية عن الرضا عن الحياة لأعد أطروحتي، وراجعت كل التعريفات التي تناولتها، وقسمتها وصنفتها وعددتها، ولكني اكتشفت أني لم أعرفها إلا حين التقيت بهم!

عرفت الصبر متبوعا بالرضا متوجا بالحمد والشكر لله.. ولكم الجزاء كما وعدكم الحبيب عليه الصلاة والسلام "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة"
فهنيئاً لكم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.