شعار قسم مدونات

الصدام بين أردوغان وكولن (2) معركة الهوية والسياسة الخارجية

blogs-إيران
"في إيران أشعر بأنني في بيتي الثاني،" هكذا صرّح رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا حين زار إيران في كانون الثاني/يناير 2014، بعد أن خرّج لتوّه من أزمة ملفات الفساد التي فُتِحَت في كانون الأول/ديسمبر 2013 والتي شكلت ذروة الصراع بين حزب العدالة والتنمية وحركة كولن، ورُغم اعتقاد البعض بأن الزيارة شكلت ملفًا منفصلًا عن ملف الصدام بين الطرفين
 

إلا أن الصراع على السياسة الخارجية التركية، وعلى دفء العلاقات التركية مع إيران بالتحديد، لا يقل أهمية عن العوامل الداخلية في تشكيل الصراع بين أردوغان وكولن.
 

إيران بشكل عام تحظى بكراهية كولن الشديدة، وهي كراهية ممتدة لعقود ومنطقية في سياق التعريف الفريد الذي تقدمه حركة كولن لهوية تركيا.

لم يلبث أردوغان أن انتهى من زيارته إذن حتى انطلقت أقلام المعارضين المحسوبين على الحركة في الرد على حالة "الركوع لإيران" التي بدت لها حينئذ، وكان أبرزهم كريم بالجي الذي كتب مقالًا في صحيفة زمان المحسوبة على الحركة (قبل أن تستحوذ عليها الحكومة) بعنوان "أنا أشعر بأنني في بيتي في تركيا فقط" ردًا على تصريح أردوغان، وهو مقال تحدث فيه بالجي عن خطورة إيران واصفًا إياها بعملاق يملك عينًا في كل مكان، ومؤكدًا أنها لا يمكن أن تكون صديقًا لتركيا.
 

هو رد فعل مبالغ فيه نسبيًا بالطبع نتيجة التوتر في ذلك الوقت، ورغبة المعارضة في استغلال أية ملفات مثيرة للجدل للطعن في سياسات الحكومة الخارجية بعد أن سلطت الضوء على الفساد في إدارتها الداخلية
 

بيد أن إيران بشكل عام تحظى بكراهية كولن الشديدة، وهي كراهية ممتدة لعقود منذ ظهور الرجل على الساحة التركية، وهي منطقية في سياق التعريف الفريد الذي تقدمه حركة كولن لهوية تركيا، على العكس من معظم الحركات الإسلامية التقليدية في تركيا وخارجها أيضًا.
 

كيف يرى كولن هوية تركيا؟

على غرار معظم حركات الإسلام السياسي، يميل حزب العدالة والتنمية إلى تشكيل تحالفاته الإقليمية مع الحركات الإسلامية، ويميل إلى تشكيل علاقة قوية مع النظام الإسلامي في إيران، علاوة على تشكيل نوع من السياسة المتوازنة بين الشرق (الممثل في روسيا والصين) والغرب (الممثل في الولايات المتحدة وأوروبا،) وهو ما يستتبع تغييرًا جذريًا في سياسة الجمهورية القديمة ورؤيتها لتركيا كبلد أوروبي وغربي في المقام الأول، وهي رؤية تصطدم بالتصوّر العلماني القديم كما نعرف، وتصطدم كذلك بتصوّر حركة كولن عن موقع تركيا في العالم.
 

طبقًا لهاكان ياووز، أحد أهم الباحثين في شؤون حركة كولن، ترسم الحركة رؤيتها للعالم وانتماء تركيا فيه وفق ثلاث دوائر؛ الأولى منها دائرة الأخوة والتي يكون الانتماء لها على المستوى الهوياتي، والثانية دائرة الأصدقاء والمنافسين، وهي هويات أخرى منافسة لا عدوة يُفضل التعاون والتحالف معها، والثالثة والأخيرة دائرة الأعداء، وهم الطرف المضاد هوياتيًا للأتراك في نظره إن جاز التعبير.
 

على عكس السائد بين حركات الإسلام السياسي، والتي عادة ما تعتبر الأمة الإسلامية دائرة الانتماء الأساسية، فإن دائرة الأخوة لدى كولن تقتصر على البلدان الناطقة باللغات التُركية (أذربيجان، تركمنستان، أوزبكستان، قرغزستان، كازاخستان،) ودول البلقان المسلمة المتشبعة بالكثير من إرث الإسلام التركي وإن لم تنتم لغويًا وإثنيًا له مثل الألبان والبوشناق، وفي المقابل فإن العالم العربي أو منطقة الشرق الأوسط يُنظر لها كمصدر مشكلات لتركيا، لا سيما نتيجة تفشي حركات الإسلام السياسي التقليدية فيها، والتي يمقتها كولن ويرى ضرورة الابتعاد عنها.
 

في دائرة الأعداء، يضع كولن إيران بشكل صريح وهي تحظى بكراهيته كنتيجة منطقية لاهتمامه بالعالم التُركي وآسيا الوسطى.

في دائرة الأصدقاء/المنافسين، ومرة أخرى على عكس السائد في عموم الحركات الإسلامية، يضع كولن العالم الغربي كله، وذلك لأسباب كثيرة أهمها أن الغرب مؤيد بشكل عام للدول المسلمة في البلقان، (ألبانيا على سبيل المثال عضو في حلف الناتو وهو أمر مستبعد حدوثه مع صربيا في المستقبل القريب،) وأن الغرب قريب أيضًا من بلدان آسيا الوسطى ويرغب في فكاكها من هيمنة الروس والصينيين، وهو ما يعتبره كولن موقفًا يصب في مصلحة تركيا كدولة راغبة في فتح تلك البلدان للسوق العالمي، والاستفادة بالتالي من دخولها اقتصاديًا وثقافيًا على عكس الحال أثناء خضوعها لسلطان السوفييت، علاوة على إيمانه بأن القيم الغربية بشكل عام قابلة للتماشي مع القيم الإسلامية أكثر من غيرها.
 

أخيرًا، وفي دائرة الأعداء، يضع كولن إيران بشكل صريح، وهي تحظى بكراهيته كنتيجة منطقية لاهتمامه بالعالم التُركي وآسيا الوسطى، حيث تجري منافسة بينه وبين الدور الإيراني، وكذلك لقربه من الغرب وتحفظه على النموذج الإيراني المعادي له، ورفضه للإسلام السياسي الذي تُعد الثورة الإيرانية أبرز انتصاراته في القرن العشرين

وأخيرًا توجسه من الشيعة بشكل عام وتأكيده باستمرار على البُعد السُني الواضح في الهوية التركية، وهو توجّس يظهر بجلاء في مقالاته وكتبه، والتي يعتبر فيها إيران "الضلع المريض" للعالم الإسلامي على مدار تاريخه (!)
 

بالإضافة لعدائها لإيران، تتحفظ حركة كولن أيضًا على الدور الروسي باعتباره خطرًا تاريخيًا على تركيا، ومرة أخرى هي رؤية منطقية نتيجة اهتمام الحركة بآسيا الوسطى والبلقان، وتعريفها لنفسها كحركة تُركية بالأساس، وكذلك نتيجة لانحيازها للغرب وقيمه، والذي يقع النموذج الروسي على الناحية المقابلة له، والأمر نفسه ينطبق على الصين وإن بدرجة أقل، فالحركة ترى بشكل عام أولوية التحالف الغربي على المغامرة بالتقارب عسكريًا واقتصاديًا مع الصين.
 

مرة أخرى… كولن يريد إرث الجمهورية

كما ناقشنا في الجزء الأول من المقال، فإن حركة كولن تميل للاحتفاظ ببنية الجمهورية القديمة مع تعديل منظومة الوصاية فيها لتكون لصالح المجتمع لا لصالح أقلية بعينها، في حين يميل الحزب الحاكم لتغييرات جذرية تأخذ النظام السياسي إلى نموذج تنفيذي أكثر تصبح فيه الدولة نفسها ظهيرًا وحارسًا للأغلبية.
 

على نفس المنوال يمتد الموقف المحافظ لكولن ليشمل دور تركيا في العالم، والذي ترى الحركة الاحتفاظ بتوجهه الغربي التقليدي الموروث عن الجمهورية القديمة منذ تأسيسها عام 1923، ومن ثم خلق توازن جيّد مع روسيا وإيران كخطر رئيسي على تركيا، وكذلك التمتّع بظهير عسكري وسياسي لحمايتها من "مشكلات" الشرق الأوسط.
 

فشل المحاولة الانقلابية، كشف التوتر حيال السياسة الخارجية بين الغريمين الإسلاميين تركيا وإيران أكثر من أي وقت مضى.

هي رؤية مختلفة كثيرًا عن الرؤية التي يتبناها حزب العدالة والتنمية الآن، والذي يميل لوضع أقرب فعليًا للوضع العثماني، حيث تبدلت صداقات تركيا وعداواتها حسب الجبهات التي انخرط فيها الجيش العثماني مع و/أو ضد روسيا وإيران وأوروبا، دون أي التزام واضح بالتحالف أو العداء المطلق مع طرف منهم، وكذلك مع النظر إلى الشرق الأوسط كقلب العالم الإسلامي الذي تنتمي تركيا له، وكجبهة رئيسية يجب الانخراط فيها.
 

لم يكن غريبًا إذن التحفظ الذي أبدته الحركة باستمرار على دخول الساحة السورية، وعلى توجه الحكومة التركية بالابتعاد قليلًا عن الغرب والتقارب مع روسيا والصين، وهو توجه ترسّخ جزئيًا بعد فشل المحاولة الانقلابية، والتي كشفت ربما التوتر حيال السياسة الخارجية بين الغريمين الإسلاميين أكثر من أي وقت مضى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.