شعار قسم مدونات

الربيع الثاني

blog-الخضراء

مع مطلع العام 2011، بدأت غيوم الشتاء تنقشع لتُسفر عن واقع جديد سيُحدث زلزالاً تصل هزاتُه الإرتدادية أقصى شرق العالم العربي حتى أقصى غربه.

فمع إشراقة شمس السابع عشر من كانون الثاني عام 2010، كانت مدينة سيدي بوزيد الغائرة في العمق التونسي على موعد مع الحرية، عندما أضرم شاب النار في نفسه احتجاجاً على منع السلطات من مزاولة عمله، ومصادرة مصدر رزقه.

اهتزت التابوهات المعهودة مؤذنةً بطرح الأسئلة "المحرجة" والتي باتت فيما بعد حاجةً ملحةً في رحلة البحث عن الذات العربية في ظل المتغيرات المتسارعة.

كانت سريالية المشهد أشبه ما تكون برفع الستارة ليبدأ العرض المسرحي المفعم بالدلالات والأكثر بهجة ودموية في آن واحد في التاريخ المعاصر للمنطقة، ولتكون بذلك إسدالاً لستارة الصمت الطويل، وإيذاناً بعهدٍ جديد، أو أشبه ما تكون بانعتاق طائر الفينيق المنبعث من تحت الرماد كما في الأساطير القديمة.

طال التغيير فيما بعد الحكومات والنظم والسياسات والوجوه بل وحتى الإيديولوجيات، وقد ترافق هذا كله مع ثورة هائلة في التقنية وسهولة الوصول لوسائل التواصل الإجتماعي، مع توق الشباب العربي للتعبير عن رأيه والمشاركة في صناعة اللحظة التاريخية.

العربة أمام الحصان
أفرز الربيع العربي قيادات ووجوهاً جديدة، طال تأثيرها الرأي العام، ووجدت نفسها فجأة أمام سيلٍ من الأسئلة المتعلقة بالعهد الجديد، مع تركة هائلة في الوعي العربي الباطن كان لها تأثرها الواضح في الشخصية العربية، وبلغت النقاشات حد التماهي والمهادنة أو الطعن والشتم مع تضاؤل مساحة الوسط أو ربما أحياناً المنطق، وتأثرت العديد من القرارات على المستوى الشعبي بالتيارات الجارفة وبات إشهار صفارة الإنذار خشية الوقوع في الأخطاء أشبه بالسباحة عكس التيار، وهذا ما حدا بالكثيرين إلى الانكفاء بعد فسحة الأمل تلك، والعودة إلى قواعدهم المتقدمة هذه المرة في رحلة مع الذات يتطلعون إلى يوم تنضج فيه معتركات الفكر والنقد أكثر.

لكن هذا لا يبرر بحالٍ الإنكفاء الطويل، فقد كانت هناك نماذج ناصعة استطاعت جذب الإنتباه أو لم الشمل على قلب واحد، عندما برزت في قضية واحدة لم تَحِدْ عنها ولم تُقحِم نفسها في نقاشات بالغة التعقيد، بل التزمت الخط العام للربيع العربي الذي يحمل أفكار الثورة والنهضة والتنوير.

كما واهتزت التابوهات المعهودة مؤذنةً بطرح الأسئلة "المحرجة" والتي باتت فيما بعد حاجةً ملحةً في رحلة البحث عن الذات العربية في ظل المتغيرات المتسارعة.

وبدا المشهد في كثير من الأحيان كمن يضع العربة أمام الحصان، بحيث بلغت سرعة انهيار الأبواب الموصدة حداً لم يستطع المفكرون والناشطون معه من اللحاق به، حتى بات المزاج العام أكثر انفتاحا على النقاشات الحادة وأكثر ضيقاً على تقبل الآخرين. وهذا سمح بتوسع "ثقافة الزي الأوحد" التي تفرض على الناس جميعا خطاً واحدا في الآراء والأفكار والمعتقدات بل واللباس حتى تكاد تطال كل شي ليصبح كلّاً متماثلاً، بالإضافة إلى تعزيز وجهة النظر ثنائية البعد التي تلغي المشهد من زوايا أخرى، وهذا كان على حساب ثقافة الإختلاف وتقبل الرأي الآخر.

إن الفكر الشمولي والإستئصالي أبناء عم، يجدان في إلغاء وتعتيم الآخر، مقابل التلميع المبالغ فيه، ملجأ وطريقة، حتى إذا فاضت أفئدة الناس بما حبست، انقلبت الطاولة رأساً على عقب، ويكاد لا يخلو التاريخ من حقبة عرفت هذه الأساليب إلا كانت النتيجة معاكسة تماما لذلك، انظروا المانيا بعد عشرات السنوات فقط من حكم هتلر.

ربما يكون الحنين إلى ثقافة الببغاوات والنسخ المتكررة قد عززته وسائل التواصل الإجتماعي، أو التناحر والقطيعة والعصبية لجماعة أو فريق أو مذهب أو رأي، وهذا جعل أصحاب الثورة الأوائل في سعيهم إلى التحرر يسقطون في شرك الإستبعاد أحيانا، وفي شرك السذاجة أحياناً أخرى، فلا بأس بالخطأ، طالما كان درباً إلى الصواب، ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق التجرية والمراقبة والتعلُّم والتصويب.

ربما تكون كل تلك الأسباب مجتمعة قادت كل مجموعة إلى التمترس خلف معتقداتها وأساليبها، تدير سفينة شراعية بعقلية القارب ذي المجاذيف، تشابهت الظروف واختلفت الوسائل والأدوات، ولك بعد ذلك أن تتخيل الكارثة التي حلت أو أوشكت على الوقوع بالمنحى العام للشخصية العربية.

وفي وقت بلغ فيه الجو العام حد التخبط، كان لا بد من جهد يدير دفة النقاش، ويتدخل بشكل إيجابي لصالح تعزيز لغة الحوار واحترام الآخر، وربما كان هذا التحدي الأبرز إلى جانب النضال ضد الاستبداد.

هذه دعوة للنشطاء جميعاً لتقديم ميثاق موحد للربيع العربي الثاني، يوجه الرأي العام، ويضبط بوصلة النهضة

عود على بدء
ربما حان الوقت للربيع أن يقوم من جديد، أن يأتي هذه المرة أكثر ثقة، محملاً بتجرية الماضي القريب، ممزوجاً برقابة أرواح الشهداء وعطر دماءهم التي تسأل ليل نهار عن النتيجة والمآل، تلك الدماء التي مسحت عار الذل، وأيقظت همة الشباب ممن تعلق ولا يزال بقضية بلده وشعبه، أنَّى كان وفي أي مكان حل.

الثورة تتسع للجميع، لمختلف أشكالهم وأطيافهم ومعتقداتهم، فالأرض أرض الله، لا تستأثرن بها جماعةٌ أو قوميةٌ أو ارتباطٌ بمجموعة من الخطوط رسمها قبل مئة عام رجلان خطا تسوياتٍ لحرب بدأت وانتهت في غيرعصرنا هذا.

فلنعمل جميعاً من أجل ربيع ثانٍ، يحمل فيها جيل الثورة تجربته في شتى المجالات، كلٌّ يضيف من معين المعارف التي اكتسبها، ويسمو فيه الممسكون بزمام الأمور فوق الخلافات المرحلية ويتطلعون إلى مستقبل قدم الشهداء أرواحهم دونه.

هذه دعوة للنشطاء جميعاً لتقديم ميثاق موحد للربيع العربي الثاني، يوجه الرأي العام، ويضبط بوصلة النهضة، ويقوِّم خلل الحُكم ويعزز أساليب الإدارة الرشيدة وينفتح على تجارب العالم الذي بات قرية صغيرة في عصر العولمة والاتصال.

ربما كنَّأ سابقاً لنُغْلقُ البابَ في وجه الأغراب، ونحشر أنفسنا في زاوية الزي الأوحد.. هذا بات -بلا شك- مستحيلاً اليوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.