شعار قسم مدونات

التجربة التركية بين الفكرة الإسلامية والعلمانية

blogs - butin
تحمل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي صورة سطحية، تكشف عدم وجود فهم حقيقي للتجربة التركية، فتارة يحكم البعض أنها تجربة إسلامية خالصة، وأن حكمة حفيد السلاطين العثمانيين ستعيد مجد الخلافة، وآخرون يشيرون لعلمانيتها،وخطأ تلبيسها ثوب الإسلاميين، والتجربة الإسلامية عنوة.

ذلك اللبس السطحي فضحه خطأ أحد المشاركين في إحدى ساحات اسطنبول حيث وقف مهللًا باندحار الهجمة العلمانية، ليراجع نفسه في الدقيقة الأخرى محاولًا اختيار تعبير أنسب، فهو بين الأتراك ويدرك جيدًا أن العلمانية جزء من هويتهم الحالية، ولا يمكن فصلها عن المجتمع والدولة التركية.

والواقع أن فصل رجب طيب أردوغان وتجربته عن جذورها الإسلامية، أمر مجحف، كما أن فصل تلك التجربة عن مدرسة الديمقراطية، والفكر العلماني أشد إجحافًا، وهو ما لمسته أيضًا في كلمات أستاذ العلوم السياسية شفيق الغبرا والذي نقل رأيه اثناء حصولي على تصريح منه حول السياسة في الشرق الأوسط وواقعها.

حيث وصف الغبرا التجربة التركية الحالية بأنها في غاية الأهمية، متخوفًا بشدة من التهديدات المحيطة بها، ولعل اهتمام المحلل السياسي الفلسطيني الأصل الكويتي الجنسية بتلك التجربة يوضحه كلماته عنها، والتي قال فيها هي مدرسة مدنية جامعة بين الإسلام والحداثة، مدرسة أوقفت الانقلابات العسكرية ، مدرسة ديمقراطية، أخشى من اهتزاز هذه المدرسة لان استمرارها سيكون له أثر إيجابي على المنطقة العربية.
لم يفت الغبرا أن تلك التجربة يجب أن يتعلم منها إسلاميو المنطقة، مؤكدًا أن هذا النموذج سيكون انعكاسه عليهم أمر إيجابي خاصة أن الإسلاميين يعدون مكونًا هامًا وضخمًا من مكونات المنطقة.

كلمات الغبرا معي والتي كانت على هامش تصريح صحفي منه لي تختلف عن الرؤى الظاهرية المتحمسة على مواقع التواصل الاجتماعي بالتهليل للسطان العثماني الجديد، أو بالتخوف من علمانيته، فهي تتفق مع ما يراه أي عربي يعيش في تركيا وهي جالية ليست بالقليلة.

في تركيا ترى كل التناقضات وتعايشها وحريتها ومساحتها، اتذكر في طفولتي أنني تأثرت كثيرًا بقصة النائبة التركية مروة قاوقجي أول نائبة محجبة في البرلمان، والتي اضطرت في ظل محاربة الحجاب وملاحقتها للهجرة للولايات المتحدة، ولم أكن أتخيل أن يتمكن أحدهم من صنع هذا التعايش والتمازج خلال عشر سنوات أو أقل.

اليوم أنا أحيا في اسطنبول، وبجوار حرم جامعة اسطنبول إحدى أبرز المباني التي حرمت من الحجاب يومًا، لأجد أن الحجاب أصبح مكونًا أساسيًا ليس في الجامعة فحسب، ولكن لا يسعك إلا ملاحظته بقوة، في مجتمع حارب كافة المظاهر الدينية لسنوات طويلة.

لا يقتصر الأمر في وجهة نظري على حجاب مروة، أو تعليم اللغة العربية، وحتى فتح أبواب المساجد التي ظلت دهرًا مغلقة، ففي المقابل تبتعد عدد من السياسات التركية عن الواقع الإسلامي، أو ما يطلق عليه الفكرة الإسلامية لدى ابناء الحركات المختلفة، والتي يحتم الواقع أن نشير إلى أنهم لا يمتلكون صورة للدولة في ظلها، وأن ما يحكمها من أطر هي أطر باجتهاد الأفراد.

الأمر يتخطى ما سبق وينتقل إلى جوانب أخرى، لا يجب أغفالها، أردوغان الذي خرج من رحم الحركات الإسلامية التركية صاحب الاقتباس الذي أدى به للسجن بتهمة الحض على الكراهية الدينية والذي يقول فيه.

مساجدنا ثكناتنا
قبابنا خوذاتنا
مآذننا حرابنا
والمصلون جنودنا
هذا الجيش المقدس يحرس ديننا

هو نفسه أردوغان الذي حرص منذ اللحظة الأولى لتأسيس حزبه العدالة والتنمية على التأكيد على مدنيته، وأنه حزب جمهوري حيث قال في أحدى خطبه "سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر، والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99 في المئة من مواطني تركيا".

التجربة التركية أو قل الأردوغانية إن شئت مازالت مستمرة لم تصل لصورتها النهائية بعد ولكن، لا تصفها بالإسلامية فحسب، أو المدنية بل ابحث عن شكلها الكامل الذي استطاع الاستفادة من المجتمع باختلافاته، وتناقاضاته، شكلها الذي استطاع تقديم مزج تركي خالص سمح لما يقارب ال3 مليون عربي أغلبهم من الاسلاميين من الحياة بتركيا دون الإحساس بالاختلاف، أو التفرقة عن المجتمع المتنوع.

الواقع أن فهم التجربة التركية والحكم عليها بصورة كاملة لا يمكن أن يحدث في خلافات التواصل الاجتماعي، أو بخطب مشايخ الشو الإعلامي عن انتصار الإسلام في تركيا، وأعيد اقتباس كلمات الغبرا بأن على الحركات الإسلامية الاستفادة من مزج التجربة التركية، فهي مدرسة مدنية جامعة بين الإسلام والحداثة، مدرسة أوقفت الانقلابات العسكرية ، مدرسة ديمقراطية.

ولربما تصبح يومًا ما خطوة على طريق خروج الحركات الإسلامية من دائرة الضياع، وغياب الرؤية الحقيقية لمستقبلها، ومستقبل دولها .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.