شعار قسم مدونات

البحث في سؤال الثورة

blogs - tahrir
ما هو السبب في اندلاع الثورات؟
هل هناك مبررات منطقية و موضوعية تساعدنا في فهم علل و اسباب قيام الحركات الثورية الراديكالية العنيفة ، ام ان تلك الحوادث تتم بشكل عشوائي اعتباطي بحت بحيث لا يمكن تبريره او اخضاعه لمنهجية البحث العلمي التاريخي التي دائما ما تبحث عن العلل و المقدمات وتربط بينها وبين النتائج و الخواتيم؟
فاذا جاز لنا ان نبحث عن اسباب الثورة ، فهل نستخدم في بحثنا مناهج واقعية عملية مادية تري ان الثورة مثلها مثل باقي الحوادث التاريخية تقوم علي عوامل بشرية طبيعية مجتمعية ام نجنح لقبول التفسيرات الدينية ذات الطابع الغيبي الذي يجعل من حوادث التاريخ مجرد تجليات ظاهرة لارادة القوي الخفية والذات الفعالة المسيطرة المهيمنة علي كل ما كان وكل ما سيكون؟.

سوف احاول ان اتعرض لعدد من الاطروحات التي تناولت مسألة التغيير بشكل عام و الثورة – باعتبار ان الثورة تحتل قمة البناء الهرمي الذي يمثل المعني الواسع الفضفاض للتغيير قاعدته -خصوصا في افكار و معتقدات حضارات العالم القديم.

كان الاعتقاد الراسخ في اذهان المصريين القدماء ان الفرعون هو سليل الالهة القديمة وانه اله مثلهم ويعبر عنهم وياخذ سلطانه و شرعيته منهم مباشرة بغض النظر عن موافقة الشعب من عدمه ولهذا كان من المستبعد تماما ان نجد افكار تتعلق بالتغيير العنيف او الثورة في العقلية المصرية القديمة ، فقد كان المصري يحترم و يبجل و يقدس حاكمه ولا يستطيع ان يفكر – مجرد تفكير بسيط – في الثورة او الانقلاب عليه.

كما ان الاوضاع الطبيعية و الجغرافية الموجودة في مصر قد مكنت السلطة الحاكمة في البلاد من فرض سيطرتها الكاملة علي جميع انحاء الدولة حيث كان نهر النيل بما يتصف به من استقرار و سريان منتظم وامتداد علي طول القطر المصري ، سببا في ربط جنوب البلاد بشمالها وفي الوقت نفسه كان اجتماع المصريين في وادي النيل و الدلتا في تجمعات حضارية زراعية مستقرة سببا في خضوعهم بشكل مطلق للسلطة الحاكمة.

كل ذلك ادي لغياب فكرة و مفهوم الثورة في الفكر الايراني القديم و أصبح التغيير السياسي يقتصر علي عدد من المؤامرات السياسية

والملاحظ ان هناك بعض العصور و الفترات الزمنية البينية التي سادت فيها الاضطرابات و القلاقل بسبب ضعف سلطان الدولة المركزية وتصاعد نفوذ ولاة الاقاليم و امراء الحرب ، وقد درج عدد من المؤرخين علي استخدام مصطلح الثورة الاجتماعية لوصف تلك الفترات ، وان كنا نظن ان وصف الفوضي او الاضمحلال اكثر دقة و اتساقا مع الاحداث التي نقلت الينا من تلك الفترات.

اما بالنسبة لمفهوم الثورة في حضارات بلاد الرافدين ، فاننا نجد ان الوضع كان مختلفا بشكل كامل فالعراق القديم عرف التنظيمات و الكيانات السياسية الصغيرة الحجم ، فظهرت به دولة المدينة وكانت كل مدينة تصطبغ بصبغة سياسية تختلف و تتمايز عن الصبغات التي تصطبغ بها المدن المجاورة لها وكان للطبيعة الجغرافية في بلاد الرافدين دورا كبيرا في ظهور مفهوم التغيير و الثورة بشكل واضح ، فقد كان انحدار نهري دجلة و الفرات وسرعة جريانهما وصعوبة استخدامهما في سبل التجارة و التواصل سببا في عدم توحيد تلك المدن في وحدة سياسية واحدة ومن ثم حدوث الحروب والمعارك المتواصلة بينها وبين بعض فالمتتبع للتاريخ العراقي القديم يجد ان الحركات الثورية قد لعبت دورا مهما في هدم انظمة واقامة انظمة اخري بدلا منها ، فهيمنة اكد و سومر انتهت علي يد الكلدانيين البابليين التي انتهت سيطرتهم بدورهم علي يد الاشوريين.

فاذا انتقلنا شرقا الي بلاد الفرس ، وجدنا ان الكثير من عقائدهم و ظروفهم كانت تتشابه مع مثيلتها في مصر بشكل كبير خصوصا في ما يخص مسالة انتشار نموذج الحياة الحضرية الزراعية المستقرة وما تبع ذلك من الرضوخ لسلطة مركزية واحدة لتقسيم الاراضي و توزيع حصص مياه الري واقامة المرافق المتعلقة بالنشاط الزراعي مثل السدود و الترع والقنوات وغيرها ، مما نجده في نهاية الامر قد ادي لظهور فكرة الملك الاله الذي لا يمكن مناقشته او الاعتراض عليه بل انه من الممنوع النظر اليه مباشرة و التحدث اليه الا باذن منه شخصيا.

كل ذلك ادي لغياب فكرة و مفهوم الثورة في الفكر الايراني القديم و أصبح التغيير السياسي يقتصر علي عدد من المؤامرات السياسية و حوادث الاغتيالات التي ينتقل الحكم بواسطتها من الاب الي الابن او من الاخ الي اخيه .

فاذا ما ادرنا وجوهنا غربا في اتجاه بحر ايجة و السواحل البحرمتوسطية اليونانية ، وجدنا ان الفكر السياسي السائد في بلاد الاغريق يختلف بشكل تام عنه في مصر والعراق وبلاد فارس
فقد لعبت الطبيعة دورا مهما في تمزيق وحدة بلاد اليونان ، فجعلت من دولة المدينة النموذج السياسي السائد في البلاد اليونانية.

ثورة العبيد التي قادها سبارتكوس والتي اندلعت في القرن الأول قبل الميلاد وانتهت بالقضاء على قادتها وصلب الالاف من العبيد على الاعمدة في الطريق الى روما

وبالاضافة الي ذلك كان هناك عدد من العوامل الاضافية المحفزة لظهور فكرة التغيير بشكل واضح ، فقد كانت الشخصية اليونانية الغربية المطبوعة علي عدم الاعتراف بالسلطان المطلق او الخضوع له ، سببا في ظهور الفكر الديموقراطي الذي اتاح الفرصة للقيام بحركات التغيير السياسي و المجتمعي بدون اللجوء للعنف او الحركات الراديكالية في الكثير من الاحيان.

اما في روما ، حيث شُيدت امبراطورية شاسعة ضخمة استحوذت على العديد من الأقاليم و المناطق في قارات العالم القديم الثلاث ، فقد كان من الطبيعي ان يحدث تمازج و اختلاط ما بين الفكر الاثيني الفلسفي الذي له اثر كبير في بناء روما نفسها في عصرها المبكر ، وما بين الفكر الامبريالي التوسعي الحربي الذي نما و تطور عبر السنين المتلاحقة ، وكان من نتاج هذا التماذج بين الفكرين المتمايزين ان فكرة الثورة و التغيير العنيف لم تحظى بظهور تام واضح في العقلية الرومانية.

ذلك أن الديموقراطية التي تدعو الى المساواة و حرية الرأي قد تضاربت مع الاوتوقراطية الحاكمة التي تدعو للهيمنة و فرض السلطة على الجميع ، ولذلك نجد ان التغيير اقتصر في معظم الأحيان على بعض الانقلابات التي يقوم بها بعض القادة العسكريين على بعض الاباطرة بهدف الاستحواذ على السلطة و الحكم.

ويجدر بنا ان نذكر ان العصر الروماني قد شهد ثورة مهمة كثيراً ما يتم الإشارة اليها عند البحث في مسألة الثورة ، واقصد بها ثورة العبيد التي قادها سبارتكوس والتي اندلعت في القرن الأول قبل الميلاد وانتهت بالقضاء على قادتها وصلب الالاف من العبيد على الاعمدة في الطريق الى روما ليصبحوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالخروج على السلطة الرومانية .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.