شعار قسم مدونات

هناك في الأقصى حيث أصبحت أنا أنا

Palestinian worshippers pray outside the Dome of the Rock at the al-Aqsa Mosque in Jerusalem during the last Friday prayers of the Muslim holy month of Ramadan, 01 July 2016. A Palestinian man was pronounced dead on 01 July after suffering from excessive tear gas inhalation when Israeli forces earlier in the morning fired tear gas at Palestinians crossing Qalandiya checkpoint from Ramallah into Jerusalem to attend prayers at the Al-Aqsa Mosque. Israeli authorities allow

هناك.. حيث بوصلتي قد أشارت.

هناك.. عرفت العشق، أغدِق علي عسل الغرام، ذقت مرارة الهيام، تشربت التحدي، أتقنت المواجهة، مارست البوح بكل ما اختلج في جوفي.

هناك.. حيث فؤادي الأسير مكلوم.

ظننت أن الحب حد الموت خزعبلات ساقتها شركات ربحية على هيئة أفلام رومانسية. حتى جاء ذلك اليوم الذي رأيت فيه شابا أعزل يرمي بجسده وسط قطيع من الخنازير البرية على هيئة بشر. تتوسط رؤوسهم بقع بيضاء وتنسدل سوالف على آذانهم.. لحاهم معفاة بعفوية ساذجة تضحك منها الماعز، وهي الحيوان ذو اللحية البشعة.

انهالوا على الشاب ليمارسوا كل ما رضعوه من سادية مروعة وبعد أن أبهروا إبليسهم – وما كان حقدهم قد شبع لولا تعب أجسادهم- كبلوا قربانهم الذي تقربوا به لإلههم (فالتسبب بألم الناس عندهم يعتبر قربانا عظيما).

بحثت عن طبيعة رباطهن وتصديهن للمستوطنين، فكان الأمر كما يلي: التكبير في وجوههم حتى يفر منهم عدد معتبر فرارا كمن تخبطه الشيطان من المس

هنا حصلت المعجزة, الشاب يبتسم. أهذا هو جنون الحب؟ أن يستعذب الألم مقابل أن لا تداس معشوقته ويقتحمها أنجس خلق الله.

كيف رمى بنفسه وهو يعلم مصيره؟ ودراسته وأهله وعمله.. هل كل هذا هين أمام حبيبته كل هذا هين أمام قدسه وأقصاه؟

إنها شجاعة وشهامة الرجل العربي، وربما هذا الشاب يعاني من أزمة نفسية ما جعلته يرغب بإثبات نفسه أمام نفسه وغيره بهذه العنترية الغريبة. هكذا تحليل البعض لقصص شباب القدس ويومياتهم مع صد الاقتحامات.

فرضت جدلا صحة تحليلاتهم، وقد أخذت بالاعتبار الضغط النفسي والاجتماعي العادي وضغط الاحتلال، وطبيعة الشاب العربي الأعزب العاطل عن العمل.. وحاولت تصديق هذا التحليل، رغم أنني أدرك أن تسعين بالمئة من هؤلاء الشباب هم متميزون وناجحون في حياتهم الاجتماعية والعملية.

بدأ يتردد على مسمعي لفظ "مرابطات".. المرابطات يُفشلن اقتحام مجموعة من المستوطنين للمسجد الأقصى، وأخبار من هذا القبيل.

الأمر غريب بعض الشيء.. مجتمع محافظ كالمجتمع المقدسي تخرج نساؤه لتواجه الرجال, رغم أنه مجتمع ثائر، وليس هناك ما يدفع نساءا للوقوف بوجه مستوطنين وجنود وشرطة.

بدأ الأمر ينتشر والأخبار تتوارد من كل ناحية، ولفظ المرابطات هو المتصدر الأول بلا منازع.

بدأت بتحليل الأمر (منطقيا) كما كنت أعتقد. لابد أن المستوطنين لم يشاؤوا أن يعتدوا على النساء وهذا ما جعلهن ينجحن في صد المقتحمين. الشرطة أيضا خشيت الاعتداء عليهم فتثير غضب الشعب عليها!

صدمني ما رأيت من جسارة النساء في الذود عن الأقصى وحرمته. تيقنت أنه الحب الذي لم يدركه سواهن

بدا لي أول الأمر أن التحليل منطقي، قبل أن يصبح (تنظيم المرابطات) يشكل خطرا حقيقيا على (أمن إسرائيل)!

لابد وأن تحليلي به نقص ما. لسن سوى نساء لا حول لهن ولا قوة، فكيف شكلن خطرا على أمن دولة. ياللسخرية؟

بحثت عن طبيعة رباطهن وتصديهن للمستوطنين، فكان الأمر كما يلي: التكبير في وجوههم حتى يفر منهم عدد معتبر فرارا من تخبطه الشيطان من المس.

ترديد شعارات يخشى اليهود الاعتراف بصحتها فلا يجدون ردا فيؤثرون الهروب وجر أذيال خيبتهم .

وأخيرا، والحل الأخير للمرابطة أمام عتاة شياطين الصهيونية هو تشكيل حاجز بشري في وجوه من بقي من حفدة القردة والخنازير.

هنا يبدأ ما لم أتوقعه: الاعتداء على المرابطات بخلع الحجاب والضرب والاعتقال فأصبح التصدي سجالا: يوم لهن ويوم عليهن. اليوم ينجحن في صد الاقتحام وفي الغد ضرب وقمع واعتقال.

صدمني ما رأيت من جسارة النساء في الذود عن الأقصى وحرمته. تيقنت أنه الحب الذي لم يدركه سواهن. وقلة قليلة صدقوا الله ما عاهدوا عليه "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر"، شعرت بهيجان في دمي، هيجان مخيف. أظن أن العدوى أصابتني.

فجأة لم أعد أبصر لي هدفا سوى الأقصى. لم يكن هذا ما شعرت به فحسب، أنا لا أبالغ حين أقول إنني شعرت بتشنجات في أضلعي، ربما لأن عقلي يدرك أنه لا حيلة لي فأخذ يوقف حركة أطرافي التي كانت تكاد تطير تجاه الأقصى.

غصة في صدري احتبست عند حلقي فبدل أن تنفجر. ملأ الندى جبيني وقد اصطبغت بشرتي بلون أحمر قان وانجرفت سيول دموع، لم أع متى هدمت أسوار جفوني.

غيرن مفهومي للحياة فالعيش من دون قضية (أو بتجاهل قضية) هو مجرد استهلاك للأكسجين على الأرض فقط

واصلت البحث وتتبع أخبار "سوبر وومنز" الأقصى (كما أراهن أنا على الأقل). وجدت أن الأمر لم يقف عند الضرب والاعتداء والقمع والاعتقال. بل مارس هؤلاء الساديون أبشع عقوبة يمكن أن تطبق على بشر. ألا وهي الإبعاد عن المعشوق. لم يكن الإبعاد يوما أو أسبوعا ولا حتى شهرا، بل استمر شهورا تخللها اعتقالات وتحقيقات وسجن وتضييقات بل وشمل الأمر العائلات أيضا.

هنا تيقنت: إذا اقترن الحب بالعقيدة فلا فرق بين رجل وامرأة، لدرجة أنك قد تذهل لروعة أساطير التضحية التي يقدمها كلاهما.

أدركت أن كوني امرأة لا يعني وجود أغلال حول أطرافي، أو على الأقل استوعبت أن حنجرتي حرة وقلمي حر.. فلا الهتاف للأقصى حرام ولا الكتابة عنه وإليه وفي سبيله عيب.

تلكم النسوة علمنني العشق والحب والهوى واللوعة والصبابة والهيام والود والوداد واللهفة والدنف والشغف والتتيم والبذل. في سبيل الله وفي سبيل العقيدة، عقيدة الأقصى.

أعدن توجيه بوصلتي إلى حيث كان ينبغي أن تكون، نحو الأقصى الجريح.

غيرن مفهومي للحياة فالعيش من دون قضية (أو بتجاهل قضية) هو مجرد استهلاك للأكسجين على الأرض فقط.

صححن مفهومي للأهداف. فأنا الفتاة التي نشأت في مجتمع محبط مثبط، أضع نصب عيني هدفا يعتبر من أعقد قضايا العصر الحديث، لا يهمني عدد الأيادي التي تحرك اللعبة هناك، ولكن أؤمن أن لي في الأقصى حقا لن تمنعه قوى العالم كلها.

هكذا علمتني المرابطات

هكذا تغيرت وتكونت لي شخصية أخرى.

هناك في الأقصى.. أصبحت أنا أنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.