شعار قسم مدونات

المياه التي تعود لمجاريها.. لا تصلح للشرب

blog طلاق

ما كُسر لا يمكن إصلاحه.. كانت هذه آخر رسالة منها. بدت هشة متقشّفة في كتابتها، تترنح بين السير قدما نحو المجهول والتراجع إلى الخلف حيث بقايا ذاكرة تأبى النسيان، هكذا بدأت دفَّة التوجيه تقودنا نحو عالم يقسمنا، أصبح الحب بيننا غير ملتزم كما عهدناه، يقطّع لغة الكون التي كانت تجمعنا إلى أشلاء، لم أجتهد كثيرا في تحليل الوضع آنذاك، لم أستطع تفسير عملية الانسحاب غير الممنهجة التي قمت بها، كان الحب هو المبرر الوحيد الذي جعلني متناقضا حد الجنون.

كيف استمررنا في حب بعضنا رغب كل الانفصالات الثورية بيننا، كيف أصبنا بالتشرد هكذا، لابد أنه شيء فقدناه. آه.. تذكرت أني كسرة شيء ثمين لم أدرك قيمته، شيء ينتمي إلينا بل يسمو فوقنا نبلا. جريمة نكراء في حق قلب أحببته، من السخيف جدا أني اعتبرت ما بيننا ذكرى حان وقت نسيانها.
 

سأقبل بقاضٍ ظالم ومحامٍ لا يفقه في الحب شيئا. فقط أطلب فرصة أخرى لمراجعة طلبي وألتمس أن تعطيه الكثير من الاهتمام

سيدتي..
أريد بشدة أن أخاطبك قبل أن يجف بحر الدموع وتعلني الحداد.
أنا اليوم عائد إلى أرض الوطن، وطني الذي هجرته دون أن أخبر أحدا، دون أن أستأذن من أهله، الوطن الذي أحبني بشغف ضمني إليه واحتفلت معه بكل أعياده، حلمنا معنا بركوب أمواج بحره رغم أننا لا نجيد السباحة، حلمنا أحلاما أكبر منا بكثير بل تتجاوز حتى قدرتنا على إدراك مدى ضخامتها.

لا أدري لماذا هربت من مصير كتبناه معا، لماذا هربت من شقاوة هذا الحب من حماقته الرائعة، كيف أقنعت نفسي أن الهروب بهذا الشكل فضيلة، وأن التراجع أنبل شيء يمكن أن أواجه به ضعفي.

أصبحت الأيام أطول مما كانت عليه، أصبح ليلي أكثر سوادا ووحشته تقتل ما تبقى من حماقتي. تذكرين سيدتي أني رسمتك حين أحببتك، رسمتك حينما كانت الريشة لا تطاوع إلا نبلاء عصري، رسمت حبا.. فإذا به يتحرك كما يتحرك قلبي تماما، رسمت أملا.. فإذا به يتحول إلى سيدة عشقتها.

سيدتي..
لازلت أبحث عن كينونتي فيك أبحث عن وجودي داخلك، أبحث عن سلاح أحارب به أنانيتي وغطرستي، لازلت واقفا حيث أنا أتأملني كم كنت غبيا بشكل نادر الوجود. كيف لي أن أهجر وطني، كيف تكون خيانتي بهذا القبح المبالغ فيه، كيف لي أن أخون وطني بعد أن أقسمت له بإجلالي.

هل ما زلت أملك الحق في طلب اللجوء أم أني مجبر على العيش بعيدا عنك بقية عمري القصير، هل ما زلت أنتمي إليك أم أني استهلكت كل الاحتمالات المتاحة لعودتي، أم أنك يا سيدتي رأيت أنه من الضروري محاكمتي على أفعالي حتى لا أعود إلى المعصية مرة أخرى، لا أعرف أي الطرق سأسلك للوصول إليك، فكل الطرق المختصرة أصبحت معاناة طويلة لا أقوى على السير فيها.

بالتأكيد هناك شروط من أجل العودة لوطني.. أقصد أنت، سأقبل أن أقتل أو أصلب أو تقطع أوصالي، أقبل أن أنفى على أمل العودة، سأقبل بقاض ظالم ومحام لا يفقه في الحب شيئا. فقط أطلب فرصة أخرى لمراجعة طلبي وألتمس أن تعطيه الكثير من الاهتمام فهو الآن لا يقوى على العيش وحيدا.

من الغريب أن كل المسلسلات التي كنت أشاهدها كانت نهايتها سعيدة بشكل مقلق، مبالغ فيها كثيرا، الكاتب والمخرج والممثلون جميعهم اتفقوا على أن الحياة صعبة في بداية كل المسلسلات الرومانسية، لكنها تصبح أكثر حيوية وليونة تنبض بالحياة في الحلقة الثلاثين. جميعهم اتفقوا على أنه إن بلغت حماقتي عنان السماوات فقلب حبيبتي يعفو ويصفح ويرحم.
 

كل ما أتذكره أني لم أكتب القصة كما أراها الآن، لم أكن أريدها أن تأخذ هذا المنحنى بهذه البشاعة، سأعيد كتابة كل شيء باللغة التي نتكلم بها دائما، لغة عاشقين..

يقول صديقي نزار وهو يتكلم نيابة عني.. 
وعدت بأشياء أكبر مني.. فماذا غدا ستقول الجرائد عني
أكيد ستكتب أني جننت.. أكيد.. ستكتب أني انتحرت
وعدت ألا أكون ضعيفا.. وكنت
وعدت ألا أقول بعينيك شعرا.. وقلت
وعدت بأن لا.. وأن لا.. وأن لا
وحين اكتشفت غبائي ضحكت
وعدت ألا أبالي بشعرك حين يمر أمامي
وحين تدفق كالليل فوق الرصيف.. صرخت
وعدت أن أتجاهل عينيك مهما دعاني الحنين
وحين رأيتهما تمطران نجوما.. شهقت
وعدت ألا أوجه أي رسالة حب إليك
ولكنني رغم أنفي.. كتبت
وعدتك أن أكون بأي مكان تكونين فيه
وحين عرفت بأنك مدعوة للعشاء.. ذهبت
وعدتك أن أحبك.. كيف.. وأين
وفي أي يوم وعدت

تم الاغتيال كما خَطط القدر أو كما أردت أنا، لم أعد أتذكر التفاصيل فهي مملة كما عهدتها، كل ما أتذكره أني لم أكتب القصة كما أراها الآن، لم أكن أريدها أن تأخذ هذا المنحنى بهذه البشاعة.. سأعيد كتابة كل شيء باللغة التي نتكلم بها دائما، لغة عاشقين.. وسأنتظر قبول نشرها مرة أخرى، سأكون حريصا عليها من الاندثار..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.