شعار قسم مدونات

أكتب كي لا يقتلني اللجوء

blogs-pal
من جاء بي إلى هنا؟
من نزعني عن صدر الأرض وأنا أرتشف ترابها لأكبر ويستقل الوطن؟
من أخرجني من بطن أمي ليلبسني ثيابا على خلفها شعار الأونروا، ويرغمني لأقول لهم عندما أكبر "شكرا"؟
من وضع في جيبي هوية اللجوء؟ كيف تسلل إليها دون أن يوقظ العرب، ألهذه الدرجة صوت أقدامه خافتة، أم لهذه الدرجة لا يسمع العرب؟
من سكب علينا النار الباردة؟ وأقسم أن يبيدنا بهدوء، مرة بنكبة ومرة بنكسة، وأخرى حين وضعونا جماعات جماعات في وعاء صغير ساخن، على طرفه بعض من أكياس التموين بإنتظارنا، وفي يمينه حاجز يحدق كلما مررنا بهويتنا الزرقاء اللعينة، ويحتل وسطه جلسة شباب بأيديهم شهادة وعلى كتفهم كوفية فإما الجهاد وإما العمل، لا العمل أحبهم"جنسيتنا تؤرق أصحاب الشركات"! بينما الجهاد استقبلهم ضيوفا ثقلاء، فكانوا مجاهدين في مستنقع اللجوء، مرة يموتوا من الإختناق بوحل المعاناة، ومرة تقتلهم رصاص جنون الفصائل واللامبالاة.
أنا في كل يوم أصرخ ثمانية وستون مرة، تسمعني الدجاجة التي خلف منزلنا، والتي ولدت يوم سقط منزل أحمد على رؤوس أولاده الخمسة، وهو اليوم يبحث عن علاج لثلاثة منهم وتكاليف قبر إثنان.
تسمعني جارتنا الأرملة المريضة والتي توجعها قدماها من كثرة الوقوف أمام مكاتب التنظيمات، لعلهم يتذكروا عهدهم بالوقوف لجانبنا وإعطائها تكاليف عملية قلبها المفتوح، الذي يزداد ثقبه مع كل ذكرى للنكبة.
تسمعني الصراصير المتكاثرة في حارتنا هذا العام، فهم يفرحوا حين يسرق الخونة تكاليف إصلاح البنى التحتية. 
يسمعني كل من لا يسمع..إلا الذي يسمع!! لربما دخل أذنيه فتات معدة إبن سليمان، الولد الذي كان يرسم خارطة فلسطين في كل أنحاء المخيم، مات بعد أن تمزقت معدته من شدة الجوع، طار فتاتها، ليغلق أذن الدول العربية كلها.
من قال أن الورق لا يبكي..أنا البارحة في المشفى رأيت دموعه غزيرة كبحر غزة، يصرخ بأنه لا يريد المزيد من طوابع ختم لاجئ، فقد ولدت مريم، لاجئة جديدة جائت لحارتنا، تمنت الورقة أن تأكل نفسها قبل أن يضموا مريم لكرت الإعاشة ومدارس الأونروا، والجزمة الحمراء التي سترافق طريقها عند ذهابها للمدرسة، خوفا من أن تتبلل قدماها بالمياه الجارية في الطريق، فتعود للمنزل دون أن تردد مع رفاقها في الطابور الصباحي" فدائي فدائي يا أرض الخلود..سنعود لأرض المرجان والياقوت".
مريم ستقف على باب الجامعة تختار مهنة مسموح للفلسطيني العمل بها..مريم ستعود للمنزل..لن تدخل الجامعة.

حبركم غربي.. الحبر الشرقي لا يخون، لا يسن قوانين منع التملك والعمل والسفر والكلام
من مزقنا دون أن يترك أثر، من نام على ضميره بوسادة ناعمة صنعتها جدتي كان قد سرقها ورحل.
حبركم غربي..الحبر الشرقي لا يخون، لا يسن قوانيين منع التملك والعمل والسفر والكلام. من جائكم به لتنثروه علينا، من أطعمكم لشدة جوعكم لتطعمونا من شدة جوعنا، وتقولوا بأن هذا طعامكم فاشكرونا.
أتدرون أمرا..أنا في الصباح أشرق في طرق المخيم مع شمسه، هذا فرض علي كفرض أذكار الصباح على كل مسلم، نهاره لا يكمل دونها.
رأيت الأزقة نائمة تضحك، لا الملائكة تضحكها بل فلسطين.
فهم يتسامرون طوال الليل،دعاني الأقصى لأكون معهم،لأشاركهم الجمع الفلسطيني..ماذا!! ماذا تريد مني..كيف سأستطيع المشي في المخيم بالليل؟..إني أخاف.
وضع الأقصى كفه على خدي الأيسر وقال لي"ماذا بك يا الحلوة العاشقة للمخيم، أتخافي من ساكن قلبك؟ ممن يحضنك في حضنه الضيق الأكبر من كل هذه الدنيا، تخافين من ليله وأنت الليل وكحلته عيناك".
عدت إلى المنزل، كنت ألملم كل معاناة لأكتبها كي لا تقتلني، ووجهي ماء يزهر، فدموع اللاجئين ورد يأسر.
كل بلد يستضيفنا لا تسألوه من أين لك الورد، إسألوا اللاجئين كم دمعة سقطت من عيناهم اللآلئ اليوم، ستعلموا كم زهرة خرجت للدنيا في تلك الساعات.
عدت لأبحث عما جرب أن يقتلنا، عن فلسطينيتنا المدفونة بين أوراقهم التافهة، أخرجتها كي لا تتأثر.
حملت علم بلادي وركضت للمخيم، غنيت في كل شارع أحب المخيم، لحقني الصغار والكبار، لحقتني فلسطين، مسكت أوراقي الثبوتية اللاجئة، وضعت على كتفي الكوفية، بللت قدمي بالمياه الجارية في حارتنا، لطخت يدي بالوحل الذي يغطي هويتي بعد أن وقعت، مسكتها وقبلتها.
حضنني المخيم، أقسم لي أننا سنداوي جراحنا سويا بإسم فلسطين، وسنحضر عزاء الضمير العالمي بإبتسامة عريضة.
أخذني إلى حيث كنت أبكي على حالنا، أعطاني القلم وقال لي تابعي كتابة..فقد كاد اللجوء أن يقتلك.
وأنا التي مت مرة واحدة في هذه الحياة…في عشق المخيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.