شعار قسم مدونات

غربة الكتاب

blog-المطالعة

كنت أتصفح النت عندما وقعت على هذه الصورة المعبرة، لأغوص في معانيها متأملا لعباراتها غير المكتوبة، قارئا لكلماتها وحروفها التي ترسم واقعا حقيقيا نعايشه في مجتمعاتنا العربية، ورغم تعدّد المعاني التي من الممكن أن يستخلصها قارئ هذه الصورة غير أنها في النهاية تجتمع لتشكّل عنوانا يمكن تسميته "غربة الكتاب".

تستمدّ أمتنا العريقة نهضتها من كلمة (اقرأ) التي كانت فاتحة الوحي المنزّل على نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، والتي صارت منهجا متكاملا لتربية الفرد المسلم نفسيا وعقليا قبل التربية الجسدية، وأنتجت جيلا مسلّحا بالفكر والمعرفة، هو الجيل الذي نشر الحضارة الإسلامية في العالم وعرّفها برسالته الخالدة.

الكتاب بات اليوم بلا جليس في عالم المجتمعات العربية والإسلامية، وحلّت محله اهتمامات أخرى لا حصر لها

في ثنايا التاريخ الإسلامي خصوصا في عصوره الزاهرة وسط انتشار القراءة والمعرفة في أنحاء بلاد الإسلام، نجد تقدّما في كافة العلوم الأدبية واللغوية والهندسية والطبية والفلكية والفلسفية وغيرها من العلوم التي ساهمت في صناعة النهضة والحضارة التي عاشها المسلمون لعدّة قرون تالية، وهي العلوم التي اقتبس منها الغرب لصناعة حضارته المادّية، وذلك بفضل المكتبات ودورالعلم التي شهدت توسّعا في تلك الحقب من التاريخ الإسلامي.

على الرغم من المكانة الرفيعة للكتاب في تاريخنا الإسلامي، ورغم اشتمال المناهج الدراسية في مدارسنا على أبيات كبيت المتنبي (وخير جليس في الزمان كتاب)، إلا أن الكتاب بات اليوم بلا جليس في عالم المجتمعات العربية والإسلامية، وحلّت محله اهتمامات أخرى لا حصر لها، مما ساهم في ظهورجيل لا يقرأ سوى صفحات الفيسبوك والواتسآب، بينما يعيش الكتاب أزهى عصوره في الغرب والشرق التي كانت يوما ما تعيش وسط الظلم والجهل.

طوبى للغرباء
بعض المعطيات التي نشرتها الأمم المتحدة حول مستوى القراءة لدى المجتمعات العربية تبيّن أن معدل القراءة لدى الفرد سنويا ربع صفحة فقط، وهذا المستوى من تدنّي ثقافة القراءة في المجتمعات العربية مؤشّر على ضبابية مستقبل العرب بالنسبة للإنتاج العلمي والمعرفي، كما هو مؤشر على ضعف الثقافة العربية بالمقارنة مع الثقافة الغربية.

هذه النسبة تؤكد كذلك على أن الجهل يضرب أطنانه بقوّة في أوصال المجتمعات العربية، إذ تعدّ القراءة مصدرا أساسيا من مصادر المعرفة، ومفتاحا للنهوض والصحوة التعليمية، مما يؤكد الحاجة لتطويرالقراءة في المناهج الدراسية، وتشجيع الجيل الشاب على حب القراءة والمطالعة.

هناك قلة من الشباب العربي يقرأ ويطالع الكتب سواء الورقية أو الإلكترونية، وهذه القلة هي التي تشكّل نخبة المجتمع المثقفة، ويعقد عليهم الأمل في تغيير المجتمعات نحو الأفضل، ودائما ما يقود المثقفون زمام التغيير في تاريخ المجتمعات، وتاريخنا الإسلامي نموذج في بناء الحضارة على أكتاف نخبة من القرّاء المتمرّسين الذين أفادوا من الماضي في صياغة حاضر نموذجي لمجتمعهم الإسلامي.

متعة القراءة لا يعرفها إلا من ذاق منها،  يبحر فيها القارئ ويأخذ منها، لتصنع منه تلك التجارب أشخاصا في شخصه

طوبى للقراء في العالم الثالث الذي لا يقرأ شبابه ولا شيوخه، طوبى لهم الغربة في أوطانهم التي أظلمت فيها شمس النهضة والعلم عندما تركوا الكتاب وتركهم، وطوبى لهم عندما يقرأون ويستفيضون في القراءة ثم يكتبون، عندما يستمعون للكتاب الذي يثرثر لهم عن كل شيء، عندما يعيشون في عالم الغير ولا يفارقون عالمهم، عندما يزورون بلادا لم يزوروها أبدا في عالم الحقيقة.

متعة القراءة لا يعرفها إلا من ذاق منها، تشبه بحرا من التجارب والعلوم المختلفة يبحر فيها القارئ ويأخذ منها رويدا رويدا، لتصنع منه تلك التجارب أشخاصا في شخصه، وتمكّنه من العيش في مختلف المناطق والأزمان، هذه هي القراءة التي يستمتع بها القرّاء وحدهم، دون أن يدفعوا فيها ثمنا سوى بعض الوقت الذي يدفعه الآخرون للهو أو اللعب.

وأخيرا أحلم بيوم تتحول فيه هذه الصورة لنشهد مجتمعا واعيا مثقفا يعطي للقراءة حقها ومستحقها من الوقت والمال، ولا يزور معارض الكتب فقط من أجل التنزّه والرفاهية، أحلم بهذا اليوم الذي تشكّل فيه القراءة منهج حياة لشباب وشابات العالم العربي والإسلامي، وما ذلك على الله بعزيز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.