شعار قسم مدونات

أبعد من الثورة والانتقال الديمقراطي

blogs - maser
لايقنعني الثوار، ولم أعد مطمئنا للإصلاحيين. ومنذ اليوم سأضع ثقتي ورهاني في تلك الطاحونة التي تعيد تشكيل نسيجنا الإجتماعي، إنها بالنسبة لي الضمانة الوحيدة للوصول إلى مجتمع القيم الديمقراطية.
 

سأعود إلى كتابات أرسطو، وأردد معه أن كل نظام سياسي يحمل في أحشائه عناصر فنائه، وسأضيف من عندي أنه وما لم تنضج تلك العناصر، لن تسقط الأنظمة ولن يتم إصلاحها.

ثورات الجماهير قادتنا إلى انهيارات الدول بدل إسقاط الأنظمة، ومن أحشائها خرجت النزعات الطائفية والاقتتال الدموي حول السلطة والثروة.

حتى قبل أن تنفجر زوابع «الربيع العربي»، لم أكن يوما من مناصري الثورات، فضلت دائما، منذ طرقت أبواب العمل السياسي في الثامنة عشرة من عمري، نهج النضال الديمقراطي من داخل الهوامش التي تسمح بها مؤسسات النظام القائم، وبعدها توسعت نظرتي وسايرت موضة العصر وأنا أعزف أناشيد الانتقال الديمقراطي، لكن الانتقال الديمقراطي في صيغته الحالية التي تعتمد على توافقات النخب لم يعد منتجا لأحلام الديمقراطية بقدر ما صار يولد انكسارات وإحباطات، وربما بسبب ذلك، صرت أومن بما قد أسميه الانتقال المجتمعي نحو الديمقراطية.

وقد رفضت الثورات لأننا لا نتوفر على بنياتها الاجتماعية و«خميرتها الفكرية»، كما أنها وفي نماذج حديثة مجربة، لا تقود وبالضرورة الفئات ذات المصلحة في التغيير نحو قيادة مرحلة ما بعد الثورة.

في كل تجاربنا كانت نتائج الثورات كارثية، وفي أقل الحالات ضررا لم تأت بأفضل مما انقلبت عليه، في الحالات التي ادعى فيها العسكر أنهم الثائرون فرضت حالات الطوارئ وارتكبت مجازر واستبد الجنرالات بالحكم باسم حماية الثورة وقطع الطريق أمام عودة الفلول. أما ثورات الجماهير فقادتنا إلى انهيارات الدول بدل إسقاط الأنظمة، ومن أحشائها خرجت النزعات الطائفية والاقتتال الدموي حول السلطة والثروة.

وحتى في الحالات الأقل سوءً، ثارت شوارعنا من أجل أحلامها، وقطف تجار الثورة فاكهة الربيع، أما الديمقراطية فصارت أقل أهمية وأولوية من الأمن والاستقرار.

وإن كنت مؤمنا بأن ثوراتنا فشلت لأنها لم تكن مسنودة بمرجعية فكرية ونظرة منظمة للمستقبل، فلأن ذلك أحد التفسيرات فقط وليس كلها، كما أني لست مقتنعا بتلك الأطروحة التي تدعونا إلى استحضار الثورة الفرنسية وكم تطلبته من عقود كي تحقق برنامجها الثوري، والسبب في ذلك أن لنا بيئتنا وخصوصياتنا وأعطابنا التي لا تسمح لنا باستيراد نماذج وخطاطات الآخرين ومن زمن غابر.

ولأسباب عديدة إضافية اعتقدت دائما أن الانتقال الديمقراطي هو الأسلم والأجدى لمجتمعاتنا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ودعمت فكرة الإصلاحات التدريجية التي تخضع لمنطق التراكم الكمي الذي يؤدي إلى الطفرة النوعية.

لكن الطفرة النوعية لم تتحق بعد.. هل الخطأ في الاختيار؟ ليس لدي ما يجعلني أعتقد ذلك، وغالب الظن أن الخلل يوجد في نقصان أو فقدان أحد العناصر الضرورية لهذا الانتقال.

ولسنا بحاجة إلى إعادة تكرار أن نخبنا السياسية أصغر من رهاناتنا الديمقراطية، كما أن لاداعي للدخول في اجترار تفاصيل أعطابها المزمنة، وكأن النبي محمد (ص) كان دارسا لللسوسيولوجيا السياسية حين قال «كما تكونوا يولى عليكم»، وها نحن نستحق النخب التي على مقاسنا وليس على قياس أحلامنا.

وأعود إلى أرسطو كي أعثر على تلك الحلقة المفقودة في خيار الانتقال الديمقراطي والتي تجعله بحاجة إلى تعديل كي يصير انتقالا مجتمعيا نحو الديمقراطية.

تقول فكرته أن كل نظام سياسي يحمل في أحشائه عناصر فنائه، وهذه العناصر في زمننا الراهن ليست غير بوادر التحديث التي ستنسف لاحقا البنيات التقليدية التي تسمح لأنظمتنا بأن تصمد في وجه مطالب التغيير والدمقرطة.

ولأشرح فكرتي أكثر، سأجزم بالقول أن الديمقراطية لا تنجح في مجتمعات تعتمد على نمط الإنتاج الفلاحي، ولن تتحقق في مجتمعات البترول والغاز. كما أن الديمقراطية لن تترعرع في أحضان القبيلة والبادية، وفي غياب طبقة وسطى ناضجة وذات مصلحة في التغيير الديمقراطي.

وأظن أننا نسير ولو ببطء نحو إنضاج البنيات البديلة، وأولى مكتسباتنا بنية ديمغرافية شابة وعقليات جيلية جديدة تريد أن تتخلص من عقدة الأب وتزيل عنها جلباب المجتمع الأبوي. ومع هذا النسيج البشري الشاب تضطهر الأنا، ويبرز الفرد المنفلت من سيطرة الجماعة. أليست الأنا أولى مكونات التعاقد الاجتماعي في كل الفلسفات التي أسست ونظرت للمجتمعات الديمقراطية !

ولأن البطالة صارت عبئا على الأنظمة مع بروز حركات اجتماعية مطلبية ضاغطة، ومع الكفاءات الجديدة التي تتطلبها آلة الاقتصاد، وحتى ضرورات احتواء نزعات التطرف والإرهاب، تلوح في الأفق بواد أنظمة تعليمية حديثة، إن التعليم وجودته هو الحلقة الأخرى المفقودة في خيار الانتقال الديمقراطي،وحين سيتحقق هذا الرهان، سنكون أمام جماهير واعية بإرادتها وخياراتها، وحينها فقط ستمتلك الديمقراطية «خميرتها الفكرية» وليس بضع شعارات يتم ترديدها في حالات اليأس والغضب.

بدلا من أن أنتظر ثمانين سنة ليتحقق لدي ما حققته الثورة الفرنسية بالدماء والاقتتال؛ أفضل انتظار نفس المدة أو أكثر لأصل إلى نفس النتيجة عبر هذه البنيات الثورية

وكم كان مهما هذا الانتقال في السنوات الأخيرة من مجتمع البادية إلى الحواضر، غدت المدن مركز الحياة في الشرق الأوسط وشمال رفريقيا وليس البوادي وأحضان القبيلة، وفي القادم من السنوات ستندثر مجالات قروية بأكملها إما بسبب الهجرة أو توسعات المجالات الحضرية، ومرة أخرى لا تنجح الديمقراطية إلا في المدن.

ويثيرني هذا الاهتمام المتزايد في عدد من الدول العربية بقضية الانتقال نحو التصنيع، في السعودية مثلا وضع مشروع ضخم للتحول من اقتصاد البترول إلى صناعات بديلة، وفي المغرب توجه بارز نحو نقل مركز الثقل الاقتصادي من الفلاحة إلى الصناعات الجديدة … إنها بالنسبة لي الحالة النموذجية التي يتم فيها التفكيك التلقائي والتدريجي لأشكال الإنتاج التقليدية التي لا تنتج غير أنظمة حكم تقليدية بدورها…

ما أسرده هنا وباقتضاب شديد ليس إلا نماذج وأمثلة لعناصر التحول التي تحملها أنظمتنا السياسية في أحشائها والتي ستكون سبب فنائها، وهي نفس العناصر التي ستسمح لنا بميلاد جماهير جديدة ونخب أكثر نضجا وإيمانا بالقيم الديمقراطية.

وبدلا من أن أنتظر ثمانين سنة ليتحقق لدي ما حققته الثورة الفرنسية بالدماء والاقتتال أفضل انتظار نفس المدة أو أكثر لأصل إلى نفس النتيجة عبر هذه البنيات الثورية التي هي قيد التشكل في صمت والثأثير في هدوء، وهذا بالنسبة لي هو عمق فكرة الانتقال المجتمعي نحو الديمقراطية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.