شعار قسم مدونات

رسالة لن تصل..

blogs - grave

أجدادنا.. يموتون.. سنة الحياة.. ندعوا الله ونبكي.أنبكي عليهم أم على فراقهم أم لأجل ذلك الشعور الضارب في أعماقنا بأننا نفقد شيئًا من ذواتنا وجذورنا وتكوين ماضينا حتى اللحظة؟.

لأجل أنها خطوة نحو الوحدة لا تعوضها علاقات جديدة..لأجل أنها زيادة في كفة الغربة من ميزان الانتماء.. زيادة تُرجٍح تلك الكفة.. لأجل أنّه قيدٌ إضافي في هذه الحياة.. قيدٌ يجعلُ من غيرِ الكافي أن تشتاقَ لأحدهم كي تراه أو تُحدّثه.. هو لم يعد هناك.. أنت الآن تطلب المستحيل.. إضافةٌ جديدة لقائمةِ المستحيلات..

هل تعلم يا جدي؟ حتى اليوم لم تنته الأخبار.. الأخبار السيئة تحديدًا لا تنتهي يا جدي.. الأسوأ من ذلك أنه ليس ثمة أخبار جيّدة تزاحمها في النشرات.

مكالماتُ العيدِ ستنقُصُ واحدًا.. والأطباق على المائدة ستنقًصُ واحدًا.. وسنخطىء في العد ثم ندرك أننا لم نَعُدْ نحن.. نحن نحن ناقص واحد!
"جدو" أبو سمير، سلامٌ على روحكَ فوقَ الأرض وتحتَ الأرض ويوم العرض، أما بعد..

إنه عيد الأضحى.. أشعر أنه من الغريب أن أكتب إليك "كل عام وأنت بخير".. هل يمنعُ الموتُ وصول الخير الذي ندعو به في تهانينا؟ لا أعتقد.. لكنني لا زلتُ أجدها تحية غريبة في موقفٍ كهذا.. على أية حال.. أتمنى أن تكونَ بخير في كل عام حتى تقوم الساعة.. ثم أن تكونَ بخير حين تقوم الساعة.. ثم في جنة الخلدِ تكونُ بخيرٍ.. ونلتقي..

بالأمس كنا نتناول طعام العشاء.. جلستُ على كرسيٍّ يقابلُ موضعَ جلوسكَ.. تخيلتُك هناكَ كما كُنت.. تجلسُ على أريكتك المفضلة أمامَ التلفاز تمامًا… كنتَ تشاهد الأخبار طيلة الوقت وكنتُ وأخي نتحرّقُ شوقًا لتنتهي تلك "الأخبار المملة" ونتمكّن من مشاهدة أفلام الكارتون.. لكن الأخبار لم تكن لتنتهي..

هل تعلم يا جدي؟ حتى اليوم لم تنته الأخبار.. الأخبار السيئة تحديدًا لا تنتهي يا جدي.. الأسوأ من ذلك أنه ليس ثمة أخبار جيّدة تزاحمها في النشرات.. الخبر "الأقل سوءًا" هو اليوم خبرٌ جيدٌ نحتفي به!.. ونحن بتنا نتسمّر لمتابعة كل ذلك الوجع.. جنبًا إلى جنب مع الكارتون..

حسنًا.. لندعنا من البؤس ولنعُدْ للحديث عن العشاء والطعام.. مؤخرًا بِتُّ أقولُ لصديقاتي باستمرار "الأكِلْ بيراضي" ثم أضحك.. لا أذكُر أنّ هذه الفكرة كانت تراودني سابقًا.. لكنني اليوم أعتقد أن الطعام اللذيذ يُخدّر الألم.. يُرضي النفس ولو مؤقتًا.. وهي متعة غير صعبة المنال (الحمدلله).. أتذكر الآن المثل القديم "ما بيضحك للرغيف السُخُن" كناية عن الشخص دائم التجهُّم.. عابسٌ إلى درجة أنه لا يبتسم حتى لرغيفٍ ساخن يُقدّم له.. الرغيف اللذيذ مدعاة أكيدة لابتسامة.. الأكل بيراضي..

أتعرفُ يا جدي.. أشتهي صحنَ فولٍ من يديك.. فولٌ تُسخّنه على الفرن وتضيفُ إليه البصل والثوم والطماطم ثم كثير من زيت الزيتون الذي أحضرته طازجًا من مزارع الأردن.. كنتَ تُعدُّ الطبقَ بمتعةٍ شديدةِ وفنِ ومزاج.. أشتهي حتى سلطة الملفوف بالثوم التي كنتُ أكره وكنتَ أنتَ تصرُّ أن آكل منها لأنها مفيدة لمنع التجلطات.. أشتهي يا جدي رؤية ابتسامتك الواسعة احتفاءً بطبقٍ من سمك الخليج الطازج..

أشتاقُ حديثًا نقرٍضُه على هامش السُفرة.. أشاكسكَ في السياسة وتغضبُ مني وتنعتني بـمغسولةِ الدماغ.. وتعودُ لتضحكَ في وجهي.. وأنا الحمقاء الممتعضة! هل يسعني أن أعتذر؟.. لا زلت أعتقد أنني كنت على حق.. لكنني أدرك الآن أن كوني على حق لا ينبغي أن يسلبني لحظاتٍ لن تتكرّر قربَ من أحب.. أهل وأصحاب وأخلاء.. لم أندم على إصراري على إبداء رأيي.. لكنني ندمتُ على ابتسامةٍ غابت عن استقبالِ نظرتك بعد انتهاء ذلك النقاش.. هل يمكنني أن أرسلها إليك الآن؟ هل لا زال لابتسامتي معنىً حيثُ أنت؟

أشتهي -يا جدي- سماعَ صوتك من الطابق السفلي فورَ وصولك من المطار.. أنزِل الدرجَ قفزًا درجتين بخطوة.. أسلّم عليك وأقبلّك ونفتح علبة كعك "الزلاطيمو" نتناولها مع القهوة.. وأخبرك أنني لا أحب احتساء القهوة ولا الشاي.. وتخبرني أنني كأمي.. أحبُّ أن يخبرني الناس أنني كأمي..

أشتهي أن تحدّثني عن "القدس" وأعلمُ أنه لا أبهَجَ لنفسك ولا أضَنى من ذلك.. كنتَ تقيمُ في المستشفى لأزمة قلبية ورئوية صعبة أدمتك وسلبت طاقتك.. جلستُ إلى جوارك.. كنتَ لا ترغب بالحديث إلا قليلًا.. أردتُ ان أُرَوّح عنك.. تذكرتُ موضوعك المفضّل وطلبتُ منك أن تحكي عن الماضي وعن حياتك في القدس تحديدًا.. تورّد وجهك ولمعتْ عيناك وبدأتَ بسردِ الذكريات في حديثٍ طويل لا يشبه تلك الإجابات المقتضبة عن أسئلتي الأخرى في تلك الجلسة..

هل تعلم يا جدّي أنني اكتشفت أن لدينا أقارب في الحجاز؟ بل وأقارب في مصر!.. أخبرتني مرة أن عائلتنا تعود في أصلها –قبل مئات السنين- إلى المغرب.. وقبل ذلك إلى حفيد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الحسن بن علي رضي الله عنه.. هداية العلمي الإدريسي الحسني.. لكنك أردفتَ بأنك لا تملك ما يثبت ذلك.. مؤخرًا وجدتُ شجرة العائلة.. شجرة مختومة وموثقة.. اكتشفتُ أيضًا أن قِسمًا من العائلة أقام في الحجاز.. وقِسمًا آخر توقّف في مصر.. هذا يعني أن لنا أقارب فلسطينيون ومغاربة ومصريون وسعوديون..

عِدني يا جدي بأنك ستعود.. وإن لم يكُن صدقًا.. اخلق بي ذلك الأمل الذي يقتل حسرتي بأن لا لقاءَ بعد الآن.

لطالما ردّدتُ أن الوطن العربي بكامله وطني.. والآن هذا إثباتٌ يا جدي.. قد يكون إثبات لا أحتاجه لكنه إثبات بأية حال.. أعتقد أن معلومة كهذه كانت لتبهجك… للأسف لم يسعني معرفتها قبلًا.. لأحببتُ أن أحكيها لك.. وأن أريك الشجرة لتبتسم!

رسالتي لن تصل يا جدي.. لذا لن أطيلها أكثر لأنثرها في الأثير نهايةَ الأمر.. لكن دعني فقط أحكي لك عن آخر خاطرٍ يراودني…

أتذكّرُ في هذه اللحظة يومَ أن كنتُ طفلةً في الخامسة من عمرها تتهادى بنظارةٍ كبيرة وتناديني تحبُبًا بـ"السفيرة عزيزة" وجفونك شبه منطبقة من الضحك.. لم أكن أعرف من هي تلك السفيرة عزيزة وكيف تبدو.. هل هو إطراء أم تشبيه ساخر.. هل أشبهها فعلًا أم أنها من ذوي النظارات الطبية ونظارتي تشبه نظارتها؟.. حسنًا.. لا زلت لا أعرف حتى الآن من هي.. لكن سأعودُ لارتداءِ نظارةٍ كتلك.. فقط عُد من فضلك ونادني بها مرة أخرى.. أو مرتين..

عُدّ جدي الذي عرف بكامل صحته وقوته البدنية.. تجيء وتروح ممتلىء الوجه مربوعً البنية متّقد الذهن موفور النشاط… عُد وطوّقني مرةً.. ثم لا تودّعني وداع المفارق كما فعلتَ آخر مرة.. فقط عِدني بأنك ستعود.. وإن لم يكُن صدقًا.. اخلق بي ذلك الأمل الذي يقتل حسرتي بأن لا لقاءَ بعد الآن..
من سيحكي لي عن "القدس" يا جدي؟ وعدتَني أن نُسجِّل كل شيء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.