شعار قسم مدونات

عبلة وعنترها السوري

A Free Syrian Army fighter walks with his weapon past a hole in the wall in Al-Yadudah village, in Deraa Governorate, Syria July 8, 2016. Picture taken July 8, 2016. REUTERS/Alaa Al-Faqir

مستأنسَيْنِ بغبش العتمة في طرف الغرفة، حيث لم يبلغ من شعاع الضوء المسرج بالبطارية إلا بصيص خافت، يخفي عن والديه الجالسين تحته أكثر مما يبدي.. جلس العريس إلى زوجته التي فارقها إلى المعركة قبل أن يتم شهر عسله، ليعود ويحكي لها لوعة اشتياقه إليها، وبطولاته التي كان يتذكرها أثناءها.. وبعد كثير من بث اللاعج وبوح الروح، استحضر من الشعر ما يعبر عنه، فقال لها:

 

– ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ ..

قاطعته معترضة:

– رماح؟! تقول: رماح؟ ما هذا الحب الناعم؟!

قل: صواريخ، براميل، نابالم.. تقول: رماح.. ونحن نسخر ممن يخاف من مدافع الهاون؟!

 

 سكت، فأمسكت كفيه برفق، وداعبت بإبهامها عروقه النافرة.. فذاب، وأسبلت جفنيها تنتظر أن تلامسها كلماته.. فقال:

– ولقد ذكرتك والصواريخ نواهل .. مني، وبيض الهندِ

استوقفته مستغربة:

– الهند؟! وهل حضر الهنود أيضا لمساعدة النظام؟ هل قتلتم منهم أحدا؟! ابن الـ… أما كفاه الإيرانيون والروس وحزب الشيطان ووسخ العراق؟

 

 

قال لها منزعجا، يكتم أنفاس امتعاضه بعدما قطعت انطلاقة الغزلية مرتين:

– لا، ما في هنود.. إنما يقصد..

لكنها لم تنتظر شرحه.. بل قاطعته ببراءة:

– طمنتني، يا ابن عمي.. إذن قل: الروس، إيران.. حرام أن نظلم العالم!

 

لو كانت المدارس مفتوحة لما توقفتُ عند الصف السابع، ولكنتَ الآن تنتظر أن أنهي جامعتي حتى تجيء لخطبتي.

كان يحب براءتها، فتبسم راضيا،

وأحبت ابتسامته، فشدّت على يديه وتبسمت، وأطرقت.. فرجف فؤاده وأغمض عينيه وقال:

– ولقد ذكرتك والرماح نواهل ..

– الصواريخ

– والصواريخ نواهل .. مني، وبيض الروس تقطر من دمي

 

قالت دون أن ترفع رأسها أو تفلت يديه:

– الروس وإيران.

فقال:

– وبيض الروس وإيران تقطر من دمي

لكن حميّته الشعرية استيقظت، وما تحمّل أن يخون الشعر والموسيقى وعنترة، فقال:

– لكنْ، هكذا سينكسر البيت!!

 

فقالت له تمزح مستهينة:

– ولينكسر..

أصلا، هل ظل بيت في المدينة على حاله؟ نصف بيوت الحارة تهدمت! المهم، ألا يتهدم ونحن فيه.. وابتسمت.

قال جادا:

– لا. أنا أقصد بيت الشعر، سينكسر وزنه. هذا في علم العروض اسمه…

 

وقبل أن يسترسل في شرحه، ألقت كفيه من يديها، وتجهّمت قائلة:

– أعرف أنك تقصد بيت الشعر. شو مفكرني "حمارة"؟! أم تريد أن تعيّرني بأني لست متعلمة مثلك؟

لو كانت المدارس مفتوحة لما توقفتُ عند الصف السابع، ولكنتَ الآن تنتظر أن أنهي جامعتي حتى تجيء لخطبتي..

وأشاحت بوجهها عنه، وهو يغرق في بركة آسنة من الندم.

 

كان يعلم حساسية موضوع الدراسة في نفس بنت عمه، وكان يتعهد نفسه دائما ألا يقترب مما قد تظن أنه تعريض بها، لكنها "فلسفته" الزائدة التي لا يستطيع أن يكبحها.

صحيح أنهما اضطرا كليهما إلى الانقطاع عن الدراسة منذ بدأت طائرات الأسد تلقي براميلها حيثما تجمّع الناس في البيوت والمدارس والمساجد والأسواق؛ لكنه كان في سنته الجامعية الثانية وقتئذ، أما ابنة عمّه فكانت طفلة في ربيعها الثالث عشر، تتميز في الأسرة بتفوقها وحبها للدراسة، حتى أن أمها كانت تناديها دائما بـ"الدكتورة"..

 

بعد أيام من زفافهما، أسرّت له بأنها لاحظت يوما بيوم كيف توقفت أمها عن مناداتها بهذا اللقب: بدأ ذلك منذ ثلاثة أعوام، عندما سمعت والدها يرفض إلحاح أمها عليه بالخروج من سوريا والبحث عن حياة جديدة.. وقتها قال: نموت هنا بالبراميل، أحسن من أن نموت في الغربة ألف مرّة بالذل والهوان.

 

نزل مسرعا إلى بيت جاره الذي تسوّى بالأرض، يساعد في البحث عن بقايا أنفاس مدفونة تحت الأنقاض، وفي ذهنه ما زال يسطع ثغر حبيبته بارقا.

حاول تدارك سقطته، فرفع يديها برفق، وقبّلهما وضمهما إلى صدره، وقال مستعطفا:

– والله ما كان قصدي… يضرب عنترة وشعره ما أغلظه.

قالت راضية، وقد أعجبها أنه قبّل يديها ولم يستحيِ من والديه الجالسين تحت بصيص الضوء الخافت:

– وهل هذا الشعر لعنترة؟ والله فكرت أنك اخترعته، أو لطشته من الفيسبوك.

 

قلي أيضا، ماذا قال عنتر؟

وأسبلت جفنيها، واستسلمت راحتاها لخشونة كفيه، يتحسسهما بلطف، وهو يقول:

– ولقد ذكرتك والرماح نواهل .. مني، وبيض الهند تقطر من دمي

فقالت وقد لامست قلبَها نفحة غزله، وتفاعلت معه تعزف على وتره:

– سلامتك.

 

وابتسمت.. فارتعش قلبه بهجة، وقال:

– فوددت تقبيل السيوف لأنها ..

ثم علّق عينيه بوجهها، فرأى وجنتيها تتقدان خجلا، وسمع خفق قلبها وهي تهمس:

– استحِ، أهلك سيسمعونك.

 

وقبل أن يكمل البيت، دوّى قريبا منهما صوت انفجار عظيم، أضاء الحي.

وفي لحظة جامدة من زمن الرجفة، رأى بارق ثغر حبيبته المرتعب يشتت لمعُه وهجَ الانفجار، ويقضي عليه بالخفوت.

 

ضمها إلى صدره ضمّا شديدا، كأنه يحبس روحها المرتعبة أن تغادر ذلك الجسد الجافل، فهدّأ من روعها، واطمأن على والديه، ثم نزل مسرعا إلى بيت جاره الذي تسوّى بالأرض، يساعد في البحث عن بقايا أنفاس مدفونة تحت الأنقاض، وفي ذهنه ما زال يسطع ثغر حبيبته بارقا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.