شعار قسم مدونات

الخصوصية ودوائر التواصل

blog مواقع التواصل 1
رغم فشله المبين في أن يكونَ شبكة فاعِلة للتواصلِ الاجتماعي، إلا أن "غوغل بلاس" قدّم فكرة عظيمة، عظيمَة في تعريفِ العلاقاتِ العامة/الخاصّة، وتحديدِ الفواصلِ الدقيقةِ بين ما هو متاحٌ لك كفردٍ ضمنَ نطاقٍ معين وما هو محجوبٌ عنك لأنك خارجَ نطاقٍ آخر.

 

إنها فكرة "الدوائِر" التي لو اقتبسناها في حياتنا اليومية أو استعرناها كما هي، لحلّت كثيرًا من مشاكلِنا فيما ما يتعلّق بالحقِ في الخصوصية.

 

إن صراعَ الحفاظ على الخصوصية في مجتمعٍ قادمٍ من الفراغ نحو الفراغ، يبدو صراعا عدميا غير ذي قيمة محفوفًا بالمخاطر وآيلا إلى الفشل.

غالبا لا يوجد إنسان يضع الجميع في دائرة واحدَة، فالأم والأب وأفراد العائلة وبعضُ الأصدقاء المقربين جدا، يكونونَ في دائرَة أقرب إلى القلب/النواة، في مدارٍ يشبه طبقة s في نظريةِ الفيزيائي الأميركي وولفغانغ باولي لتقسيمِ الالكترونات ضمن ذرة معينة، ثم تتعددُ المداراتِ بتعدد الالكترونات واختلافِ طاقاتِها ومدى قربِها أو بعدها من النواة، أي مدى قوةِ/تماسك الرابطةِ التي تجمعُها بالمصدر، وعلى ذلكَ البناء الفيزيائي العاطفِي، تتحددُ الأهمية الفعلِية لكل شخصٍ في حياةِ شخص آخر.

 

ينتج عن هذا تفصيل في الحقوقِ المعنويةِ وربّما المادية بين الأشخاص، لكن ينتج عنه شيء آخر مهم جدا، وهو الخصوصية التامة أو الكاملة لما في النواة، إذ لا يمكِن بأي حالٍ من الأحوال أن يوجدَ إلكترون هناك، حيثُ يُبقي الإلغاء المتبادل لشحناتِ البروتوناتِ مع المداراتِ الخارجية على تماسكِ البنيان الذري، فلا يحدثُ الانشطار.
 

لكن ما علاقة هذا بالدوائر والأشخاص، علاقته في قداسة "الخصوصية" من حيثُ المبدأ، وفي الفوضى الذريةِ/الاجتماعية التي تجعلُ جل المجتمعاتِ العربية فاشلة في كل شيء تقريبا، عندما يتعلقُ الأمر باحترامِ الآخر، ومساحته الشخصية.

 

أنت صديقي، أنتِ صديقتي، أو تجمعنا أية رابطة اجتماعية أخرى، نشتركُ الكثير والكثيرَ جدا، أو لا نشترِكُ إلا القليل، أيا تكن طبيعةُ المشتركِ بيننا، فلا يجبُ أن تتداخلَ مطلقا مع ما هو "غير مشترك"، مع ما هو لي وليس لك، أو ما هو لك وليس لي. وقتك مع نفسك، وقتي مع نفسي، هواياتُنا السخيفة التي نحتفظُ بها لذواتنا، عاداتُنا العلنية أو السرية، مقدساتُنا… أفكارنا المتغيرة/الثابتَة، قناعاتنا الصالحة/الفاسِدة، مشاعرنا، آراؤنا، طموحاتُنا، اهتماماتُنا البسيطة جدا.

 

 إن لم نحدد منذُ البدء (أي منذ بدء الخليقة) أن ما ذٌكِر يدخل ضمن المشترك، وضمن الدائرة الأعم، في المدارِ الخارج جدا، فليس من حق أي منا الدخول فيها.

 

إن صراعَ الحفاظ على الخصوصية في مجتمعٍ قادمٍ من الفراغ نحو الفراغ، يبدو صراعا عدميا غير ذي قيمة محفوفًا بالمخاطر وآيلا إلى الفشل، لكن رغم هشاشتِه يبدو صراعا حتميا لمن يملك ذرة إيمان بحقهِ في الوجودِ ككائن منفصل عن كل ما سواء، كائن له الحق أن يعشقَ ما يريد، ويتبتل في المحراب الذي يعجبه دون أن ينزعجَ كائن آخر من حريتِه المفرطة، أو عدم اكتراثِه للآراء المكررة منذ ألف عام، حول ما هو صوابٌ وما هو خطأ، حول ما هو عام وما هو خاص، حول ما هو قابلٍ للإعلان وما يجبُ أن يحتفظَ به الإنسان لنفسه.

 

ليكون المجتمع سليما  يجب حتما أن يحترم كل منا الآخر، يحترم كل اختلافاته وكل ما يميزُه، حتى وإن كان الآخر مخالفا.

وهناك مشكلة أخرى ستطرح لاحقا لذلك الإنسان، تحصلُ عندما يكتشفُ شخصٌ ما في دائرة ما أن شيئا ما قد حصل في دائرة أخرى "لا تعنيه"، وهي ليست مشكلة واحدة فقط، بل اثنتان أو ثلاث: لماذا أنا خارج تلك الدائرة، لماذا أنا آخر من يعلم؟ ثم كيفَ لك أن تفعل شيئا كهذا؟! وبذلكَ السؤال الأخير تولد الوصاية على الآخر، وتتقلص مساحة الفضاء الخاص ليبتلِعها الفضاء العام المقلوب، الذي لا يبدو أنه كانَ يوما قابلا للتنوع والتجزئة.

 

إن أهمية الخصوصية ليست ذاتية فقط بل هي اجتماعية أيضا، وليكون المجتمع سليما من الناحية السوسيولوجية يجب حتما أن يحترم كل منا الآخر كل اختلافاته وكل ما يميزُه، حتى ولو كان ذلك يقع تماما على الطرف المقابل لما نؤمن به ونعتقدُه.

 

 إذا كنت في إحدى دوائري احترم حدودها من فضلك، وأعدك سأحترم حدود الدائرة التي تضعُني فيها، وربما مع الوقت نصل لتلك اليوتوبيا الجميلة التي وصفها القرآن في سورة المائدة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.